لم يشكل لي شعار «خليك بالبيت» نقلة نوعية أو وضع جديد يتسبب لي بالضيق أو النفور من الحالة التي دخلت فيها «فعادة أظل في بيتي الفارغ إلا من ابنتي منشغلاً بمشاريع كتابية كثيرة وقراءات مكثفة» وأستطيع أن أقول إنني أعيش في الغرفة بمعدل 18 ساعة في اليوم أوزعها بين موضوعات مختلفة من ضمنها الاستماع إلى الموسيقى وإعادة النظر إلى رفوف مكتبتي لانتقاء كتب بحاجة لقراءتها. بقية الساعات أنزل فيها الطابق السفلي أتناول فيها وجباتي الثلاث ثم استريح في الصالة لقراءة الشعر والرواية وبعض الفصول من كتب متنوعة.

جزء من اليوم يكون من نصيب الحوش المشمس في طقس شرق أوسطي يمنحك ارتخاءً كاملاً في الذهن لعلك تطرد الخوف والقلق ومعاناة العالم اليومية مع أخبار الجائحة المرعبة. شخصيًا ما خسرته أمور سهل تعويضها السفر للخارج الذي كنت مدمنًا عليه والخروج الأسبوعي للمقهى وأحيانًا أكثر من ذلك، أما إجراءات التسوق الضرورية فهي أساسًا كانت من مهمات ابنتي قبل الأزمة.

لهذا ليس لدي ما أخسره كثيرًا في نعمة معانقة الشارع واحتضان عشقه الأزلي. علمتني الحياة من دروسها العسيرة والمضنية مما جعلني أتقبّل وضعي الحالي بكل هدوء ومرح. وبقدر ما الإنسان اجتماعي بطبعه فإنه من الجانب الآخر قادر على التكيّف مع شتى الظروف الجديدة. فالجلوس في البيت ليست خطيئة ومعاناة لمثل حالتي وإنما فرصة لإنجاز ما كان معلقًا وتم تأجيله.

نحن سعداء أن ننتمي للقرن الواحد والعشرين حيث الثورة الرقمية ووسائل الاتصال والتواصل وفّرت لنا تسهيلات لا يمكن لأي أجيال سبقتنا بعقود أو بقرون كانت قادرة على العيش فيه. لا أريد أن أغرق في المبالغة أو التقليل من خطورة الوضع العالمي للجائحة لكي لا تستهتر الناس بحياتها وبحياة غيرها، كما لا يجوز الإفراط في التفاؤل أمام الكابوس بالتهاون في كيفية محاربته بكثير من الصبر وبقليل من متابعة التعليمات الصارمة بين الناس أنفسهم وبين المجتمع ومجموعاته المتنوعة حياتيًّا ومهنيًّا. علينا أن نتحرّك جماعيًا بروح وشعار موحد على أن من اللازم «التفكير بالقضاء على الفيروس بأسرع وقت ممكن وفي ذات الوقت التعامل معه على أساس انه سيظل اطول مدة ممكنة»، هذا التوازي المتناقض بين حالة ما نهدف إليه وما ليس ممكن تحقيقه بسرعة خيالية، خاصة وإننا لسنا وحدنا في جزيرة نائية من الكون منعزلين في منفى روبنسون كروزو الطوباوي. إن الاستهتار بحياتك بالضرورة استهتار تلقائي بحياة من حولك «سواء في نطاق ضيق أو واسع» فعندما يقع الفأس في الرأس لن ينفعك الندم ولن تستطيع تقديم ما هو نافع من اعتذار لمن تسبّبت في ضررهم وإيذائهم.

لقد قيل أن العقل زينة وعلينا التحلّي بتلك الحكمة في الاستماع اليومي والثابت للجهات الصحية الرسمية ولكل منظمة مجتمعية وصحية تحاول مساعدتنا في المحنة على أمل الخروج من هذه الدائرة السوداء. ولولا الحالة التي نحن بها وهي حالة الالتزام البقاء بالبيت كما التزم المعري ببيته كرجل ضرير لما التفت إلى أهمية قراءة التاريخ الإنساني مع كوارث الأوبئة التي عرفتها البشرية خلال قرون طويلة وكيف تراجعت أرقام الوفيات من الملايين إلى الآلاف ثم المئات، بل ووجدت أن الإنسانية نتيجة التحسن في الوضع الصحي والمعيشي فإن الولادات كانت تفوق الوفيات، فأصبحنا بالمليارات من البشر عن العهود السابقة.

لقد تنوعت الأوبئة مثلما تقدم العلم خاصة الطب والبحوث العلمية في إعداد وإنتاج أدوية ولقاحات قادرة على إيقاف سيول الموت الجارفة في مدن العالم. لم تخلوا في جميع الدول حالة الأوبئة سواء على مستوى قرية صغيرة أو بلدة أو مدينة أو بلد أو إقليم وقارة حتى عمت الأوبئة العالم إلى مستوى أعلى كجائحة كونية تثير الزوابع الإعلامية والمجتمعية في الألفية الثالثة. لن تخسر الإنسانية ضحايا كطاعون جستنيان (541ـ750م) فقد قتل ما بين 30ـ50 مليون شخص أي ما يعادل نصف سكان العالم في ذلك الوقت فيما، الموت الأسود (الطاعون) بين عامي (1347ـ1351م) انتشر في جميع أنحاء أوروبا فيما وباء الجدري بين القرنين (15ـ17) أودى بحياة 20 مليون شخص في القارتين الأمريكيتين فقتل 90% من السكان.

وبذلك ساعد الوباء الأوروبيين على استعمار وتطوير المناطق التي تم إخلاؤها إلى حد ما وتغيير تاريخ القارتين. أما ضحايا الكوليرا الأولى (1817ـ 1823م) في جيسور بالهند فقد أودى بحياة الملايين، ولازال هذا الوباء مستمرًا حتى يومنا. كما حصدت الإنفلونزا الإسبانية المرعبة (1918ـ 1919م) فقد أصابت ما يقرب من 500 مليون شخص وتسببت في قتل 50 مليونًا على مستوى العالم.