محنة «كورونا» الذهبية ما زالت تغدق علينا بعشرات المنح والفرص. الحياة التى انقلبت رأساً على عقب، وستظل مقلوبة على الأرجح فترة طويلة، قلبت كذلك العديد من الطرق والسبل التى ننجز بها مهامنا وأنشطتنا اليومية. التجربة المريرة ماضية قدماً فى تسليط الضوء على نواقص عدة، وإيجابيات كثيرة، وفرص لا حصر لها وأقترح أن تكون هناك لجنة معنية بمتابعة وتحليل التغيرات الحادثة فى المجتمع المصرى بغية الاستفادة بما نكتسبه من مهارات وقدرات بفضل الأزمة. هذه اللجنة تتشكل من أساتذة وخبراء فى مجالات علم الاجتماع والنفس والتعليم والتربية والاقتصاد والصحة والأمن وغيرها من المجالات، وتكون مهمتها الرصد العلمى ثم التحليل مع وضع توصيات قابلة للتنفيذ.

تنفيذ الضبط والربط فى الشارع ممكن، وهذا ما أثبتته لنا الأسابيع الأولى من تطبيق قرارات الحظر والإغلاق للمحلات. فحين قررت الأجهزة الأمنية وأرادت توافرت الأدوات لتطبيق الحظر والإغلاق بحذافيرهما، وهو ما يعنى انتفاء حجة «أصله سلوك مواطنين» التى أثقلت كواهلنا واضطرتنا لتقبل حوادث سيارات قاتلة وفوضى شارع عارمة وانفلات سلوك مزمن على مدى سنوات طويلة، لكن «كورونا» أعادت لنا الثقة فى شعار «حين توجد الإرادة يتم إيجاد الطريق». والطريق الذى سلكته وزارة التربية والتعليم قبل سنوات من إصرار على إجراء عمليات إحلال وتبديل للنظم العقيمة والسبل التى أكلت عليها الدروس الخصوصية وشرب عليها التمسك بتلابيب الحفظ والصم، حيث بنك المعرفة بديل ومنصات التعلم الإلكترونى رفيق أثبت بالحجة والبرهان أن إدماج التكنولوجيا الحديثة فى التعليم ليس اختياراً بقدر ما هو واجب وضرورة. وبالتالى فإن الأولوية فى التعليم للفترة المقبلة يجب أن تكون سد نواقص هذا التوجه، والاستمرار فى تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية عن طريق توفير أدوات التعلم فى كل ركن من أركان المحروسة. الإنترنت لم يعد رفاهية، والشاشات المتصلة به ضرورة، ومعها تقنيات التدريس والتعلم عن بعد، حيث «زووم» وغيرها من التطبيقات التى ثبتت قدرتها على أن تكون طوق نجاة فى زمن الوباء أصبحت كالماء والهواء.

هواء عليل مشابه يطل علينا عبر إمكانية العمل من البيت، وما يعنيه ذلك من تخفيف لحدة الازدحام فى الشوارع، وتقليل معدلات التلوث، وإهدار الوقت والجهد فى مشاوير الذهاب والعودة، وتقليص نفقات أماكن العمل مع القدرة على إنجاز كم أكبر من العمل فى وقت أقل. بالطبع هذه الإمكانية لا تسرى على كل الأعمال. كما أنها لا تعنى إغلاق أماكن عمل بالضبة والمفتاح، لكنها تعنى إعادة ترتيب جداول العمل مع سهولة التقييم بناء على حجم الإنتاج المنجز.

وإنجاز المواطنين لقوائم تسوقهم وشراء ما ينقصهم من الأسواق قبل إغلاقها جميعاً فى ساعة موحدة يعنى أننا لسنا شعباً فوضوياً كما يشاع، أو غير قابلين للتنظيم كما يقال. بل الأصل فى الأسواق وعمليات البيع والشراء ألا تكون مفتوحة على مدار الـ٢٤ ساعة. قليل من التنظيم لا يضر دون الحاجة إلى انتظار الوباء.

ومع الوباء وساعات البقاء فى البيت الطويلة، ظهرت حشود الرياضيين والرياضيات فى الشوارع. مشى، ركض، ركوب دراجات فى شوارع كنا نظن أنها مخصصة فقط لتناحر السيارات وفوضى السير. وإذ بفتيات وسيدات يركبن الدراجات، ورجال ونساء يدمجون المشى ساعة أو أكثر برنامجاً يومياً دون الحاجة إلى الاشتراك فى ناد رياضى أو الخوف من الدهس بسيارة هنا أو توك توك هناك.

لكن هناك أيضاً مشكلات كبرى دفعتنا «كورونا» إلى اكتشافها، أو بالأحرى الاضطرار إلى مواجهتها. عمالتنا الموسمية أو العشوائية قنبلة ليست موقوتة، ولكنها انفجرت. وإذا كانت الإعانات التى سارعت الدولة إلى تخصيصها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه فى ملايين البيوت، ومعها كرتونة رمضان ودعوات التبرع، قادرة على تسيير أمور هذه الملايين لبضعة أسابيع، فإن الحاجة ماسة إلى اعتبار عمالة مصر «العشوائية» أولوية قصوى، شأنها شأن أطفال بلا مأوى وزواج الطفلة وغيرهما من الكوارث. فمع استمرار سباق الأرانب المحموم، لا سيما من قبل الطبقات الأقل حظاً من حيث التعليم والعمل والإمكانات المادية، تتسارع حدة ووتيرة ضخ المزيد من هذه العمالة، وما يرتبط بها من مشكلات أخرى، حيث تسرب من التعليم وعمل فى مهن لا علاقة لها بالإنتاج وارتفاع نسب الجريمة وتنامى المناطق العشوائية وغيرها. وهى حلقة مفرغة لا بد من كسرها على مستويين: الأول مد يد العون التدريبى والتوعوى لهذه الملايين، وذلك أثناء حصر أعدادها، وربما وضع خطة عملية للاستفادة بهم وتحقيق الفائدة لهم.

وبالطبع فإن «كورونا» لم تلق بظلال متطابقة على المصريين. فإذا كان هناك من هو قادر على العمل والتعليم من البيت وممارسة الرياضة لبعض الوقت وإعادة اكتشاف الدفء الأسرى بعد طول جمود، فإن آخرين يعانون معاناة مريرة لأسباب كثيرة، تتراوح بين ضيق السكن وضياع جزء من الدخل المادى وضبابية المستقبل وغيرها. لكن إذا كانت الأزمة الحالية لقنتنا جميعاً درساً قاسياً فى مسئوليتنا فى التباعد الاجتماعى -الذى تفضل منظمة الصحة العالمية تلقيبه بالتباعد الجسدى- حماية لأنفسنا ولغيرنا، فإن المسئولية نفسها تحتم علينا أن نخرج من الأزمة بقدر أوفر من المعلومات عنا وعن مشكلاتنا وحجمها، ووضع تصور واقعى لسبل حلها مع خطط عملية لعدم تكرارها، وهذا هو المقصود من هذه السطور.