أول ما ينبغي أن يُعاد النظر فيه من سلوكات بعد جائحة «كورونا» هو النزعة الاستهلاكية القاتلة


فضحت أزمة «كورونا» هشاشتنا؛ هشاشتنا كأفراد، وهشاشة مجتمعاتنا وبنياتنا ومؤسساتنا واقتصاداتنا وسياساتنا في العالم كلِه. وضعت السؤال عريضاً عن جدوى نظام من الحياة بكامله درج عليه الاجتماع الإنساني المعاصر منذ مئات السنين، وكشفت عما يَعْتوره من خلل وسوء تكوين. ولأول مرة، في كل تاريخ الجوائح والحروب والأزمات الاقتصادية والأوبئة، يصل العالم إلى حافة الهاوية كما لم يصل إلى ذلك قبلاً؛ بل ويعجز عن أن ينقذ نفسه من وهدة السقوط المميت، كائن دقيقٌ لا مرئي: يحبس أنفاس البشرية، ويوقف عجلة الحياة؛ يقذف بملايين البشر في بيوتهم محتمين منه؛ يشل آلة الإنتاج وحركة المبادلات في العالم؛ يُربك سياسات الدول ويُدخلها في لجّة تناقضات في القرارات والخيارات لا حصر لها؛ يُقطِّع أوصال العلاقات بين الاتحادات الإقليمية فيدفع الشركاء فيها إلى الفرار من الشراكة واللواذ بالداخل القومي؛ يزهق أرواح عشرات الآلاف ويرمي بمئات الآلاف في المستشفيات يصارعون الموت؛ يهبط بأسعار الطاقة إلى دَرْك أسفل ويَشل حركة الطلب الاعتيادي على منتوجاتها؛ يوقف حركة الملاحة البحرية والجوية، بل يشلّ حركة تنقل الناس بين المدن وداخل المدينة الواحدة؛ يُغلق المدارس والجامعات والملاعب الرياضية والأندية والمتاجر والمطاعم والمقاهي والمتنزهات، ويُدخل العلاقات الإنسانية والاجتماعية في نفق حالة صِفْرية أشبه ما تكون بحالة العدم، هذا بعضٌ قليلٌ من مشهد الخراب الذي أحدثه هذا الكائنُ اللاّمرئيّ في عمران العالم اليوم؛ وما خفيَ أعظم إن نحن صدّقنا توقعات خبراء «المنظمة العالمية للصحة» المتخصصين.

إذا كان القطاع الصحي في العالم قد وجد نفسه عاجزاً عن كبح جماح ضربات فيروس «كوفيد 19»؛ لعدم قدرة البحث العلمي، حتى الآن، على توفير اللقاح المناسب الذي يكون به العلاج؛ وإذا كان القطاع هذا أبدى فشلاً في استيعاب ضغط أعداد المصابين على المراكز الاستشفائية، وفي توفير المستلزمات الطبيّة، فما ذلك إلاّ لأنّ هذا القطاع يدفع -وربما أكثر من غيره- فاتورة سياسات رسمية لم

تُولِ الحياة في خياراتها أولوية، ولم تلحظ للصحة العامة مكانة معتبرة في توجهاتها البرنامجية. لقد كان الإنفاق على القطاع الصحي -منذ أربعين عاماً خلت- الأقل في الإنفاق الحكومي الرسمي على الإطلاق.

لا نقول ذلك ونحن نستحضر في الذهن المقارنة، مثلاً، بالإنفاق على القطاع العسكري أو القطاع الأمني؛ بل نقول ذلك لعلمنا بأنه أقل، بكثير، حتى من الإنفاق الرياضي أو

السياحي، أو غيرهما من القطاعات التي لا نستكثر عليها الاهتمام بها، ولكن نستغرب كيف لا يُصْرف الاهتمام عينه إلى قطاع الحياة الأول: الصحة العامة، تُنَبِّهنا الجائحة هذه إلى الكثير من مواطن الخلل والعطب في نُظُمنا الحياتية والسياسية والاقتصاديّة والاجتماعية، وتفرض علينا، بالتالي، أن نتولاها بالمراجعة والتصحيح وإعادة البناء عسى أن يفتح ذلك مكانا أمام نمط من الحياة جديد ومفيد. تنبهنا، على صعيد السلوكات، إلى ثقافة الاستهلاك التي تستبد بنا، وتُبَرمج عقولنا وأفعالنا على موجتها وإيقاع إغرائها. وهي ثقافة تكرست، في الوجدان العام، بأثر من طغيان الاقتصاد الاستهلاكي الذي ينمي المادي والحيواني من غرائز الإنسان، ويُنمط ذوقه وسلوكه تنميطا متحكما به. يتحول معنى الحياة، في هذه الحال، إلى مجرد فعل بيولوجي رديء هو الاستهلاك.

والأَنكى من هذه الطامة أن هذا الاستهلاك لا يصبح عادة مألوفة، لدى المرء، يحتاج إلى إشباعها فحسب؛ بل يغدو ثقافة. وهل ثقافةُ الرَّيع الاقتصادية والحياتية إلا واحدة من أظهر ظواهر تلك الاستهلاكية المستَقْبَحَة؟ وهل تناسُل الأمراض التي سببها الشراهة في الاستهلاك غير واحدة من أقبح العادات الاستهلاكية التي تدمر الأبدان والنفوس؟

الاستهلاكيّة منافية للإنساني في الإنسان، بما هو كائن عاقل؛ إنها تعبير عن طغيان حيوانيته فيه، وانسياق وراء الحيوانية تلك وغرائزيتها البكماء. وعندي أنّها تحصل بفعل فاعل لا بالتلقاء؛ والفاعل هذا هو النظام الاقتصادي الاستهلاكي الذي صُمِّم وقام على مبدأ إشباع الغرائز، بل على تنميتها واستثارتها والتوسع في صناعة «حاجاتها»، لتعظيم الأرباح. إنه نظام يلعب اللعبةَ الماكرةَ التي يلعبها تاجر المخدرات؛ يذيقُك سِلَعَه حتّى إذا أدمنْتَها، بِتّ عبداً له يُسَيِّرُك على هوى مصالحه. هكذا تُزْرع النّزعة الاستهلاكية في الناس، وتُنْشَأ لها وسائلُ الترغيب والإغراء، حتى تتمكن من النفوس والرِقاب. إن أول ما ينبغي أن يُعاد النظر فيه من سلوكات هو هذه النزعة الاستهلاكية القاتلة؛ ولا يكون ذلك ممكناً وفعالاً إلا متى أعيد النّظر في النظام الاقتصادي الذي ينتجها ويعيد إنتاجها.