في عقليتنا العربية شيء غريب يحتاج إلى وقفة ولو صغيرة: لمَ نرفض الاعتزاز بالمنجز الثقافي العربي المميز الذي حقق مساحة من العالمية؟ هناك حتماً أسباب ظاهرة، وأخرى غير مدركة في كُليَّتها، كثيراً ما استُعمل الدين، أو التقاليد كوسيلة لهذا المحو الغريب والمرفوض وعدم الاعتراف.

بالمقابل هناك بلدان صغيرة أقل ثقافة وحضارة من العرب، تفتخر بأي منجز صغير يمنحها اعترافاً دولياً، في حين كل العلامات الثقافية التي صنعت مجد العبقرية العربية في أعالي تألقها وتمايزها، تُرفض أو تُنسب للآخر الذي يحاول تدمير ذاتنا الثقافية بتصحيرها.

عقلية النفي ورفض التمايز لا تقتصر فقط على الإنسان، ولكنَّها تمادت إلى مسّ الكتب العربية الكبيرة التي تركت أثراً إنسانياً كبيراً أصبح العالم العربي والإسلامي يعرف من خلالها، من هذه الكتب حكايات ألف ليلة وليلة أو الليالي.. أي سحر يملكه هذا النص ليستمر في الوجدان الإنساني، على الرغم من أنه أُحرق العديد من المرات دون أن يتحول إلى رماد، كما كانت تفعل محاكم التفتيش المقدس في القرون الوسطى، والتي كان المسلمون ضحية لها بعد أن طاردتهم في الأندلس وخارجها، وأحرقت مخطوطاتهم العلمية المهمة، فقد مُنع كتاب الليالي في البداية من التداول لأسباب أخلاقية تتخفَّى وراءها سلسلة من الهواجس السياسية بصبغة دينية.

وكلما فقد المجتمع العربي المبادرة الحضارية، ارتد إلى ذاته الجريحة وبدل أن يداويها بالعقل، يحاربها بالمزيد من التصحر والتجفيف الديني والثقافي، فقد تمّ حرق نص ألف ليلة وليلة في حواضر عربية متعددة منذ القرن العاشر إلى اليوم، وحُوِّل إلى رماد في العديد من المناسبات، المدهش في العملية هو أن هذا النص، كلما أُحْرِق زاد انتشاراً، فنهض من رماده كطائر الفينيق أو العنقاء، محلقاً عالياً، ومثيراً غضب سدنة الخوف من الحرية، وشكَّل نص الليالي معبراً نحو واقعية سحرية غير معهودة في الثقافة الغربية، ونحو تخييل جديد كان وراء كثير من النصوص العالمية المميزة.

فقد اعتبر كبار الروائيين العالميين أن ألف ليلة وليلة شكَّلت أرضية خفية لكتاباتهم، فمارسيل بروست، أكد على ذلك كله في تصريحاته لتبرير عنصر التجديد في روايته الخالدة «في البحث عن الزمن الضائع»، الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز يعتبر ألف ليلة وليلة كتابه المرجعي الدائم الذي صنع جزءاً من مخيلته وبنيات الكثير من رواياته، ومنها «مائة عام من العزلة»، وخورخي لويس بورخس يرى في نص الليالي، الكتاب الكبير والمدهش الذي ترك في حياته كلها أثراً كبيراً.

أكثر من ذلك كله، فقد حوَّل الموسيقيّ الروسي الكبير ريمسكي كورساكوف الليالي، في القرن الـ19، إلى سيمفونية خالدة حملت اسم شهرزاد، وترجمت الليالي إلى أكثر من 50 لغة عالمية.

بينما نحن ما نزال نصطدم إلى اليوم بالسؤال الإشكالي: لماذا نرفض كل ما يعلو بنا عالياً، ويسمو بنا ثقافياً، نحو عالمية كم نحن بحاجة ماسة إليها؟