عام وراء عام تتمكن شبكة الإنترنت من عالمنا، وتتوسع مجالات الاستفادة من هذه الشبكة والفضاءات التعبيرية التي توفرها، ولا يقتصر ذلك على الطروحات اللانهائية التي تتنامى فيها بصفتها مجالاً للتنفيس الاجتماعي والنفسي والفكري، وإنما وبالإضافة لذلك في الاعتماد التدريجي عليها في توفير مداخيل ووظائف لفئات تتفنن في خلق فرص تشغيلية لم تكن لتخطر على بال بشر قبل عقدين من الزمان.

وفي هذين السياقين تتنامى وتتطور مظاهر الإبداع المختلفة سواء في التعبير أو التوظيف، ومن ذلك تلفت الأنظار وتنضج مؤخراً برامج جادة مثل البرنامج الحواري الذي يحمل عنوان "رؤية مفكر Tginkerview" والذي بدأ بثه بوساطة "sky" على اليوتيوب YouTube عام 2013، وهو برنامج عميق المضمون يناقش الموضوعات المتعلقة بالجغرافيا السياسية والتمويل والإرهاب والإعلام والإنترنت والبيئة والمجتمع، هذا ويقوم بتقديمه مذيع ذكي واسع الاطلاع إلا أنه يحرص على إخفاء هويته بحيث لا يظهر على الشاشة إطلاقاً، ويأتي صوته الهادئ الخافت محفزاً الشخصية المستضافة على الاستطراد حيناً وأحياناً يتدخل بهمزة هنا وهناك لكن غالباً ما يصفه ضيوفه بكونه مرآة تدعو المفكر للنظر عميقاً في ذاته بحيث يتم طرحه للجمهور بلا اصطناع وبلا مونتاج، فالبرنامج يبث حياً على الهواء، أما الضيوف من المفكرين الفرنسيين فإنهم يظهرون مثل لوحة لدافنشي على خلفية حيادية من السواد التام، وأحياناً حين يرتدي الضيف السواد فإنه يزيد في غموض المشهد المسرحي الذي يضمه حيث لا يظهر منه غير بياض وجهه ويديه، مجرد وجه يتحرك طافياً في سواد، مما يشعر المتفرج بأن السواد يتحدث بإيماءات من أيدٍ ووجوه تتبدل مع تبدل الطروحات، المذيع المتبحر لا يترك للحوار فرصة أن يركد ولا للكشف فرصة أن يتراخى وذلك بأسئلته القصيرة مثل وخزات برق خاطف، أو بفكاهته التي تباغت سواء الضيف أو المتفرج، بحيث لا يشعر المتفرج بالملل في برنامج يستمر لما يزيد على الساعة.

لهذا تتوسع شعبية هذا البرنامج "رؤية مفكر"، والذي يتابعه ست مئة ألف مشترك، ويعتمد البرنامج وفريقه السري على دعم الجمهور بحيث يتلقى ما يزيد على الواحد وعشرين ألف يورو شهرياً من ثلاثة آلاف مساهم.

مذهلة هذه الصيحة التي تمنح صوتاً للرأي والرأي الآخر المتجردين من الرتوش والتزييف، ويدل على نجاح هذا البرنامج وتجرده من المواقف الشخصية هذا الدعم بلا مقابل الذي لا يتمثل في المتابعة فقط وإنما يمتد للتحفيز المادي، حيث قام هذا المذيع بمقابلات شهيرة تركت أثرها في توجيه الفكر العام وطرح قضايا من زوايا لم تخطر من قبل لأحد من الصحافيين المؤطرين في قيود الصحافة وانتماءاتها وحساباتها الخفية، ولعل أشهر المقابلات التي أجراها مقابلته مع خوان برانكو (ولد في 26 أغسطس 1989)، الكاتب الفرنسي والمحامي من الناشطين في الوسط السياسي بفرنسا، والذي اشتهر بكونه المدافع عن رجال حركة "السترات الصفراء" سواء في المحكمة أو في وسائل الإعلام، وسبق بترافعه ضمن فريق المحامين عن "أسانج" المسؤول عن التسريب المعلوماتي "WikiLeaks"، الأمر الذي سلط عليه الأضواء بصفته المتكرس للدفاع عن حقوق الإنسان.

"رؤية مفكر" يفتح الآفاق لقضايا بلا حدود، ويشكل تحدياً لأولئك الراغبين في إنتاج برامج واستحداث مواقع انتصار للقضايا الإنسانية