أخطأ كثيرون في فهم المحتوى الحقيقي لما يمكن اعتباره «أحزاباً إسلامية» تركية ابتداء من «حزب الرفاه» الذي أسسه نجم الدين أربكان، وامتداداً إلى حزب «العدالة والتنمية» الذي أسسه جناح الشباب المتمرد على أربكان داخل «حزب الرفاه» وعلى رأسهم رجب طيب أردوغان وعبد الله جُل وغيرهما من رموز هذا الحزب، وخاصة أحمد داوود أوغلو الذي عمل مستشاراً للأمن القومى مع أردوغان، ثم وزيراً للخارجية. أوغلو هو مؤلف نظرية «العمق الاستراتيجي»، وهي النظرية الكاشفة لحقيقة المكون الأيديولوجي لحزب «العدالة والتنمية».
لم يكن الإسلام كعقيدة وكنظام حكم هو ذلك المكون، كما اعتقد كثيرون ممن تعاملوا مع حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا باعتباره «حزباً إسلامياً».
كان أردوغان، يرفض بشدة هذا التوصيف، ليس فقط كرفض تكتيكي يهدف من ورائه إلى تثبيت الوجود التركي في العالم الغربي، وخاصة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو ليحمي طموحه للانضمام إلى «الاتحاد الأوروبي» عندما كان يؤكد دائماً أن حزبه «حزب ديمقراطي» وليس حزباً إسلامياً بالمفهوم التقليدي هدفه إقامة حكم الشريعة الإسلامية.
كان الهدف الحقيقي هو «الإمبراطورية العثمانية» كنظام سياسي وليس أيديولوجية الخلافة الإسلامية، على أساس أن الإمبراطورية العثمانية فرضت نفسها واحتوت مضمونها الاستعماري للدول والأراضي المجاورة تحت عباءة «الخلافة الإسلامية».
حزب «العدالة والتنمية» يريد الخلافة العثمانية «كإمبراطورية»، لكن من دون عباءتها الإسلامية، هو يريد استعادة الخلافة العثمانية كإمبراطورية حاكمة دون تقيد بأيديولوجية إسلامية للحكم، لذلك، فإن هاجس الرئيس التركي الحقيقي الآن هو في الإعداد لمراجعة يقبلها العالم لمعاهدة لوزان (1923) التي صاغت النهاية الرسمية للإمبراطورية العثمانية عقب هزيمة هذه الإمبراطورية في الحرب العالمية الأولى أمام كل من فرنسا وبريطانيا، وهي المعاهدة التي رسمت الحدود الجديدة للدولة التي ورثت هذه الإمبراطورية التي أخذت اسم «الجمهورية التركية»، وهذه الدول هي التي وضعت القواعد الجديدة لنظام الحكم البديل في هذه الجمهورية: العلمانية والديمقراطية، وكان أهم ما تضمنته هذه المعاهدة ثلاثة أمور: أولها، اقتطاع أجزاء كبيرة من أراضي الإمبراطورية العثمانية وإعادتها إلى شعوبها، وثانيها، انتزاع تركيا من عالمها الشرقي الإسلامي الذي كانت تمثله الإمبراطورية العثمانية (دولة الخلافة الإسلامية) وربط الجمهورية التركية الجديدة بالعالم الغربي، وثالثها، فرض العلمانية بمفهوم «اللادينية» أي إنهاء «إسلامية نظام الحكم» وفصل الدين عن السياسة فصلاً نهائياً، اقترن ذلك بإجراءات مفعمة بالإسراف ضد كل ما هو شأن رمزي إسلامي من جانب الحاكم التركي مصطفى كمال الذي حمل اسم «أتاتورك» بمعنى «أب الأتراك»، منها استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية في كتابة اللغة التركية، ومنها منع الآذان في المساجد باللغة العربية، ومنها منع التعليم الإسلامي، وإطلاق السفور للنساء ومنع الحجاب، وغيرها من الرموز الإسلامية.
عندما صاغ أحمد داوود أوغلو نظرية «العمق الاستراتيجي» كان يستهدف إعادة تركيا مجدداً إلى عالمها الشرقي، أو الجوار الشرقي الذي هو «جواراً إسلامياً» سواء كان عربياً أو فارسياً، لكن الفارق بينه وبين أردوغان أنه كان يتحدث عن «شراكات استراتيجية» مع الجوار الإقليمي لتركيا. فعل ذلك مع سوريا ومع إيران، ومع مجلس التعاون الخليجي. هذه الشراكات كانت تسعى إلى تكريس قاعدة «توازن المصالح» بين تركيا وجوارها، وأساس ذلك هو الاحترام المتبادل ودعم المصالح المشتركة، وهذا يفترض بادئ ذي بدء احترام الحدود بين تركيا وهذه الدول، لكن أردوغان استخدم أوغلو ومنظوره الاستراتيجي كوسيلة لتجميل ما يخطط له ويطمح إليه، أي مراجعة الحدود، والعمل بدأب لاسترداد ما يعتقده بأنه أراضٍ اقتطعت من الإمبراطورية العثمانية، التي يحرص على أن يطابق بينها وبين دولته الحالية.
الغزو التركي لشمالي سوريا، هدفه ضم محافظتي حلب وإدلب السوريتين إلى الدولة التركية، وتوغل الجيش التركي في شمال العراق هدفه ضم محافظة الموصل ومحافظة كركوك إلى الدولة التركية، ومماحكات أردوغان مع دولتي قبرص واليونان بخصوص ثروات الغاز في إقليم شرق المتوسط هو استرداد مناطق من الأراضي القبرصية واليونانية إلى الدولة التركية.
لكن الأهم هو أن أردوغان يؤسس من الآن لخطاب سياسي محوره انسحاب تركيا من معاهدة لوزان فى عام 2023، وعندها تبدأ المطالب التركية الرسمية باسترداد ما يراه أردوغان وحزبه أنه «أراضٍ اقتطعت بالقوة من الأراضي التركية». وعندها سيسقط القناع عن «إسلامية» أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ولعل في خريطة «تركيا الكبرى» التي نشرها النائب في حزب العدالة والتنمية ميتين غلونك التي ظهر عليها العلم التركي بلونه الأحمر وتضم أجزاء من سوريا والعراق ومساحات واسعة من شمال اليونان وجزر بحر إيجه، ونصف بلغاريا، وقبرص وأرمينيا، إلى جانب مناطق واسعة من جورجيا، ما يؤكد حقيقة المشروع السياسي التركي الجديد الذي يريد أردوغان أن يفرضه بالقوة.