تصادف هذه الأيام بداية حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق والتي راح ضحيتها أكثر من مليون قتيل وقرابة المليوني جريح إضافة إلى خسائر مالية قُدّرت بمئات المليارات من الدولارات.

طرفا النزاع في هذه الحرب التي دام رحاها قرابة عقد من الزمن كان لكل منهما أسباب لخوضها، على أقل تقدير المعلن عنها. فإيران وبحسب سفيرها الأسبق لدى الأمم المتحدة، منصور فرهنك، وفي مقال له على موقع "بي بي سي" الفارسي، بتاريخ 9 أيلول (سبتمبر) 2010، ذكر أن تصدير الثورة الإسلامية إلى العراق والدعم المالي والسياسي للشيعة ضد نظام "البعث" في بغداد كانا المحركين الرئيسيين لنشوب هذه الحرب. بينما قال العراق في حينها أنه دخل الحرب لتحرير عربستان (الأحواز) والتي كانت قد احتلتها إيران في عهد رضا شاه (الأب) عام 1925 وكذلك لأجل حماية الحدود الشرقية للوطن العربي من الأطماع الفارسية.

وبصرف النظر عما قيل من أسباب لاندلاع هذه الحرب، تثبت الوثائق أن العراق كان قد قدم أكثر من 290 مذكرة إلى الأمم المتحدة للاحتجاج ضد الخروقات الحدودية والتدخلات الإيرانية في الشأن العراقي منذ أيلول (سبتمبر) 1979 وحتى عشية قيام حرب السنوات الثماني في 22 أيلول (سبتمبر) 1980.

ولفهم معنى أن يصف مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران، الخميني، حرباً قتلت وشردت مئات الآلاف من شعبه بالنعمة الإلهية، فهذا يتطلب منا فهماً دقيقاً للظروف التي أحاطت بالنظام الحاكم في إيران منذ قيام الثورة وحتى اندلاع الحرب ومنه نستدل على العقلية التي ما زالت تحكم حتى يومنا هذا.

فكما هو معلوم عن مجريات الثورة الإيرانية وحيثياتها المعقدة، كانت قوى الثورة الفاعلة بكافة أطيافها ومشاربها السياسية والقومية، بما فيها التيار الإسلامي الذي كان يقوده رجال الدين وعلى رأسهم الخميني، قد اتفقت في ما بينها على فصل الدين عن السياسة في إيران الجديدة وكذلك على شكل النظام السياسي الذي سيحكم إيران بعد إسقاط حكم الشاه. وقد كلّف حينها حسن حبيبي بكتابة مسودة دستور جديد في باريس بالاستناد إلى دساتير دول أخرى في العالم.

إلا أن الخميني وبعد أن استتبت الأمور لصالحه في إيران بعد الثورة، كلف كل من ناصر كاتوزيان، وعبدالكريم لاهيجي، وحسن حبيبي، وجعفري لنكرودي وغيرهم من حقوقيين وسياسيين بكتابة دستور جديد للبلاد يتناسب مع نظرته هو ورجال الدين للمرحلة المقبلة.

هذا وكان قد أُعلن في 18 شباط (فبراير) 1979، أي بعد أسبوع فقط من انتصار الثورة، عن تأسيس الحزب "الجمهوري الإسلامي"، وكان رجل الدين القوي آنذاك محمد بهشتي وكذلك موسوي أردبيلي وهاشمي رفسنجاني وعلي خامنئي ومحمد جواد باهنر ومهدي كروبي وميرحسين موسوي وحبيب عسكراولادي وغيرهم من قادة الثورة الأوائل في مقدم المؤسسين. وقد لعب هذا الحزب منذ قيامه كواجهة لرجال الدين في المشهد السياسي الجديد. إلا أنه وبحكم وجود قوى سياسية أخرى كانت قد لعبت دوراً محورياً في الثورة، دخل حزب رجال الدين هذا في صراع دموي معها وبالأخص مع القوى اليسارية والقومية والتي حاولت منع إقصائها عن المشهد السياسي من قبل الحزب "الجمهوري الإسلامي".

فحادثة التفجير التي ضربت مكتب الحزب "الجمهوري الإسلامي" بتاريخ 27 حزيران (يونيو) 1981 والتي قتل فيها أول رئيس للحزب، محمد بهشتي - والذي كان يحتل منصب رئيس المحكمة العليا أيضاً - وغيره العشرات من أعضاء الحزب، وكذلك التفجير الذي استهدف مكتب رئيس الوزراء بعد ذلك بشهرين في 29 آب (أغسطس) 1981 حيث قتل فيه الرئيس الجديد للحزب ورئيس الوزراء محمد جواد باهنر، ورئيس الجمهورية في حينها محمد علي رجائي، كانت من أبرز الأحداث الدموية التي غيرت المشهد السياسي الإيراني برمته وأدخلت البلاد في صراع دموي شديد الخطورة.

إذاً، مخطط رجال الدين لإقامة نظام جمهوري إسلامي في إيران قوبل برفض شديد من قبل القوى السياسية في البلاد، فما كان بالخميني إلا أن دعا في الثاني والثالث من شهر كانون الثاني (ديسمبر) عام 1979 إلى استفتاء على شكل النظام السياسي، هو أشبه بالبيعة، بحسب وصف الحقوقي عبدالكريم لاهيجي، أحد الذين كلفهم الخميني بكتابة الدستور الجديد، حيث كان سؤال الاستفتاء: جمهوري إسلامي: نعم أم لا! خدعة استطاع الخميني أن يمررها على عامة الشعوب في إيران وقواها السياسية، فكان النظام الجمهوري الإسلامي هو الخيار الأوحد الذي تم الموافقة عليه وبنسبة 98.2 في المئة من المصوتين، على حد زعم النظام حينها!

هذا الوضع الجديد زاد من تعقيد المشهد السياسي في إيران وحوّل البلاد إلى حلبة لصراع سياسي دموي بين القوى والمكونات السياسية والقومية الفاعلة في مجريات الثورة. ومن أوائل هذه الصراعات تلك التي انطلقت شرارتها من جامعة طهران حيث كان الطلاب في غالبيتهم من مناصري القوى السياسية المدنية والعلمانية والتي اتخذت من الجامعات (في عموم البلاد) مراكزَ لنشاطاتها السياسية. في المقابل، اتخذ مناصرو الحزب "الجمهوري الإسلامي" الحسينيات والمساجد مقارَّ لنشاطاتهم السياسية والمذهبية بهدف استغلال مشاعر العامة.

بعدما استشعر رجال الدين الخطر، أمر الخميني مجلس شورى الثورة (شوراى انقلاب اسلامي) الذي أسسه قبل انتصار الثورة بشهر تقريباً - 12 كانون الثاني (يناير ) 1979 - والذي كان يعمل بشكل سري، بالتدخل للحد من نشاط القوى السياسية المناهضة له ولرجال الدين ومشروعهم. حيث طالب المجلس اللجان الثورية ("الحرس الثوري") بـ "تطهير الجامعات من مناصري القوى السياسية" (حسب بيان مجلس شورى الثورة). كما أمهل مجلس شورى الثورة القوى السياسية ومناصريها ثلاثة أيام لترك الحرم الجامعي وإخلاء مكاتبها. إلا أن القوى السياسية رفضت القرار هذا ودخلت في مواجهة دامية مع رجال الدين. اللافت في الأمر هو أن معظم أعضاء مجلس شورى الثورة كانوا من الحزب "الجمهوري الإسلامي" وحزب "حرية إيران" (نهضت آزادی) فقط، وكان هدفه الرئيس تشكيل حكومة موقتة وإدارة البلاد إضافة إلى كتابة الدستور.

وإثر هذا القرار ونتيجة الأحداث الدامية تعطل التعليم الجامعي وأقفلت الجامعات أبوابها لعامين تقريباً (بدءاً من نيسان (أبريل) 1980)، واعتقل العديد من الطلاب والأساتذة، وعرفت هذه الفترة بـ "الثورة الثقافية". هذا الصراع لم يقتصر على الحرم الجامعي في العاصمة طهران وحسب، إنما انتقل إلى كافة الأقاليم ودخلت البلاد مرحلة جديدة أكثر دموية واغتيل العديد من الشخصيات العلمية والسياسية المؤثرة في الشارع على يد فرق الموت التي كانت مهمتها سحق وتصفية كل من يمانع ظهور الدولة الإسلامية الشيعية في إيران.

حينها فقط جاءت الحرب مع العراق لتلعب دور المنقذ للنظام القائم في طهران، وكما جرت العادة، في الحروب الخارجية يسهل القضاء على الأعداء الداخليين. فوصف الخميني حرب الخليج الأولى بالنعمة الإلهية على نظام الجمهورية الإسلامية كان في محله لأنها كانت بالفعل نعمة على نظامه. فبفضلها استطاع الخميني ومن خلفه رجال الدين من تصفية معارضيهم في العاصمة طهران وعموم البلاد، بمن فيهم حلفاؤهم من حزب "حرية إيران" (نهضت آزادى)، مستغلين ظروف الحرب والتفاف الجماهير حول القيادة في طهران، والتي شكلت بالنتيجة غطاءً لقمع وسحق الخصوم. وقد ذكر آية الله حسين علي منتظري، خليفة الخميني الذي عزله الأخير عام 1989 بسبب معارضته مسبقاً لسياساته في استمرارية الحرب العبثية مع الجارة العراق وكذلك عمليات الإعدام الواسعة والمتكررة في البلاد، في الجزء الأول من مذكراته، صفحة 620، أن السجناء الإيرانيين الذين أعدموا في عام 1987 - أي قبل نهاية الحرب بعام - بلغ عددهم 3800 شخص، رقمٌ تؤكد المنظمات الحقوقية الإيرانية أنه نصف الرقم الحقيقي. إذاً، ما لم تكن قد وقعت هذه الحرب، لربما كانت إيران ونظامها في وادٍ آخر اليوم، ولربما كان وضع المنطقة العربية بما فيها الشعوب في إيران، أفضل بكثير مما هي عليه الآن.