يُحيي في كلِّ عام أتباع مرجعيات شيعيَّة إماميَّة أربعة عشر مأتماً للأربعة عشر المعصومين، حسب التَّقليد الإمامي، على أنهَّم قُتلوا جميعاً، الأئمة الاثنا عشر، والنَّبي، صلى الله عليه وسَلم، وابنته السَّيدة فاطمة الزّهراء(ت11هجرية)، كانت الفكرة، في هذا الإدعاء، تعميق شعور المظلوميَّة أولاً، وثانياً أنَّ يتناسب ذلك مع فكرة الرَّجعة، وهي عقيدة إماميَّة، فالشَّهيد يعود ويتولى المنصب الإلهي ثم يموت حتف أنفه، يستمر تداول الولاية حتى قيام السَّاعة(المظفر، عقائد الإماميَّة، والصَّدر، ما بعد الظُّهور).
لا نُناقش العقائد، ما زالت أنها خاصة بأهلها، فمهما كانت العقيدة مخالفة للآخر، عليه احترامها، وإلا يكون مصير البشر الإبادات المستمرة في حروب دينية ومذهبية، وقد شاع القول: «لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به»(العلجوني، كشف الخفاء)، كذلك ليس مِن المناسب، أنّ تُحَوّل عقيدة إلى «إرجاف» ضد الآخر، ومفردة الإرجاف جاءت على لسان مؤسس المرجعية الإماميَّة الشّيخ المفيد (ت413 هجرية)، ومعناها «خاض في الأخبار والفتن قصد تهييج النَّاس».
جاء ذلك وهو يتحدث عن الغلاة وممارساتهم، وهي اليوم ظاهرة تُفرض بقوة «التَّهيج» ضد مراجع المذهب الآخرين، والآخرون يسكتون مسايرة لما يحبه العوام ويطربون له، وهذا السُّكوت قد انتقده هبة الدِّين الشَّهرستاني (ت1967) في مجلته «العلم»(1911)، عندما دُفع العوام ضده لفتواه في منع نقل الجنائز إلى النَّجف حفظاً لصحة النَّاس.
أغرب ما ورد في حشود هذا العام بمناسبة وفاة النبي الكريم، أنهم اعتبروه شهيداً، ومعلوم أن منزلة النّبوة، حسب الاعتقاد الديني/ أعلى مِن الشَّهادة، لكنَّ الإشارة إلى القتل، ومِن خلال ما تبثه الفضائيات مِن تحميس النّاس باللطم، كي تجري هذه المناسبة مجرى مقاتل الأئمة، وما يُدس فيها مِن «الإرجاف»، وهذا خلاف ما عليه بقية المسلمين، لأن الثَّابت أن نبي المسلمين قد توفى، والحدث مشهور.
جُعل الأربعة عشر قتلى جميعاً لصالح الإرجاف، الذي عبر عنه الشَّيخ المفيد نفسه، وهو اختلاق تاريخ آخر، يضر في الحاضر مثلما كان ضرره في الماضي، فجماعة معينة تُقدم نفسها هي صاحبة الثَّأر، والثّأر المطلوب هو مِن الحاضرين بطبيعة الحال، لأن الماضين قد ذهبوا، القتيل منهم والقاتل، إذن ضد مَن سيكون هذا التحشيد، وقد جرت العادة أن يُحتفل بالمولد النَّبوي، وهي مناسبة فرح وسرور، فعلام هذا الإصرار على تكثيف الأحزان، ومعلوم «أن الأحزان لا تُعمر الأوطان»، والحزن لم يكن نبيلاً عندما يُمارس مع «الإرجاف».

يقول الشّيخ المفيد مصححاً ما تتداوله آخرون: «المقطوع به أن أمير المؤمنين (علي) والحسن والحُسين خرجوا مِن الدنيا بالقتل، ولم يمت أحدهم حتف أنفه، ومَن مضى بعدهم مسموماً موسى بن جعفر، ويقوى في النَّفس أمر الرِّضا، وإنْ كان فيه شكٌ، فلا طريق إلى الحُكم فيمن عداهم، بأنهم سموا أو اغتيلوا أو قُتلو صبراً، فالخبر بذلك يجري مجرى الإرجاف، وليس إلى تيقنه سبيل»،(المفيد، تصحيح اعتقاد الإماميَّة، ص 131-132).

غير أنَّ حديث «ما منا إلا مقتول أو مسموم» (المجلسي، بحار الأنوار)، لم يُقصد به إلا الإرجاف، فوفق ذلك لا النَّبي ولا فاطمة ولا السَّجاد ولا الباقر ولا الصَّادق ولا الجواد ولا الهادي ولا العسكري، كانوا قد قُتلوا أو سُموا، لُصق سم الإمام الرِّضا، وهو غير ثابت، بعبد الله المأمون (ت218هجرية)، وهو ولي عهده وزوج ابنته، ونجله الجواد زوج ابنة المأمون الثَّانيَّة، وهذا الرّضا يقول في المأمون نفسه: «إنه وصل أرحاماً قُطعت، وآمن نفوساً فزعت، بل أحياها، وقد تُلفت، وأغناها إذا افتقرت»(ابن بابويه، عيون أخبار الرضا)، فناقل هذا القول هو أحد أصحاب الحديث الإماميين الكبار المعروف بالشّيخ الصَّدوق (ت381هجرية).

إنْ ما يجري تحت أعواد المنابر اليوم، ليس بمصلحة العراقيين عامة والشِّيعة خاصة، فهناك طبقة مِن المعممين يخوضون بالشِّيعة لجج الفتن، باستحضار الماضي، واستحضاره ملفقاً مثيراً ملتبساً على النَّاس، يقول جعفر الحلي (ت1897) في أمثال هؤلاء المرجفين: «كم جاهلٍ يلقى الورى متحنكاً/خدعَ العوام بكثرةِ التَّلبيسِ»(سِحر بابل وسجع البلابل).