«كِنّا وين وهالحين حنّا وين!» مثل من الأمثال المتداولة يردده الناس عندنا في حالات تغير الأوضاع تغيراً جذرياً نحو الأفضل. هذا تحديداً هو حال وضعنا الاجتماعي في المملكة العربية السعودية. كانت عصيبة وقاسية تلك المرحلة التي عشناها ابتداء من ثمانينات القرن المنصرم، عصيبة على الوطن والمواطن. أُبتلينا آنذاك بزمرة «تسدح وتردح» في البلد، زمرة تمارس القهر والإرهاب على المواطن، وتحاول أن تغتصب السلطة والقرار من الدولة ومؤسساتها. شوّهوا صورة السعودية، دولة وشعباً، أمام العالم حتى أصبح المواطن السعودي محل شك وريبة أينما ولّى وجهه في هذا العالم الفسيح، وأصبحت السعودية محل تندر في جميع وسائل الإعلام العالمية. ولا يدرك ما حدث لبلدنا من ثورة اجتماعية مع بداية عقدنا هذا إلا من عاصر تلك الحقبة الكئيبة وامتد به العمر ليشاهد ما يحدث الآن من تطور وانفتاح على العالم المتحضر ومن تسامح وتقبل للآخر. المدهش في الأمر ليس هو أننا وصلنا لهذه المرحلة، المدهش أننا وصلنا بهذه السرعة وبهذه السلاسة. المدة القصيرة التي استطاعت بها السعودية أن تجتاز هذه المسافات الفلكية على طريق التنمية والتحديث لا بد أن تسجل في كتاب غينيس للأرقام القياسية.

تداعت هذه الذكريات إلى مخيلتي ليلة البارحة بينما كنت أنا وعائلتي نطوف شوارع الرياض ورأينا دور السينما تفتح أبوابها لاستقبال الناس لمشاهدة آخر الأفلام على الشاشة الكبيرة، كما رأينا النساء في أماكن التسوق يتجولن دون أن يعترض أحد طريقهن أو ينهرهن لعدم تغطية وجوههن. وحدثني أبنائي عن الفعاليات العديدة التي أقامتها هيئة الترفيه وحضروها، بما في ذلك الحفلات الغنائية لمطربين محليين وعرب وعالميين، عدا عن فتح البلاد أمام السيّاح الأجانب من كل الجنسيات وكل الأديان.

ما كنا نتصور ولا في الأحلام أننا سوف يمتد بنا العمر لنرى المملكة تتجاوز تلك المرحلة القاتمة. كل ما احتاجه الأمر هو القيادة الواعية لمتطلبات العصر والقرار الحازم والإرادة الصارمة والرؤية الواضحة. وقد أثبت السعوديون، رجالاً ونساء، أنهم هذا النوع من البشر، خصوصاً إذا توفرت لهم القيادة التي تستلهم هذه الرؤية وتتقمص هذه الإرادة. عزيمة الرجال المدعومة بقوة الإرادة ووضوح الرؤية أحرقت المراحل وحققت القفزات والمعجزات. وعلى خلاف نبوءات من لا يريدون لنا الخير، لم يكن الشعب السعودي، بمختلف مناطقه وأطيافه، متّحداً خلف قيادته كما هو اليوم. في سنوات تعد قليلة في أعمار البشر -فما بالك بأعمار الأمم- أصبح المجتمع السعودي مجتمعاً طبيعياً متصالحاً مع نفسه ومع بقية المجتمعات البشرية يسير بخطى حثيثة متسارعة نحو التطور والتحديث.

يبقى أن نؤكد بأن ما حققته المملكة خلال السنوات القليلة الفائتة ليس مجرد إصلاح إداري وانفتاح اجتماعي وثقافي، بل إنها أيضاً شهدت قفزة اقتصادية تمثلت في تعزيز الإيرادات غير النفطية وزيادة قيمة الناتج المحلي غير النفطي مما سيحررها في المستقبل المنظور من ارتهانها لتقلبات أسعار النفط. هذا عدا مضاعفة حجم صندوق الاستثمارات العامة من 560 مليار ريال إلى ما يزيد على 1.3 ترليون ريال.كل ذلك زاد من معدلات التوظيف حيث بلغت نسبة توطين الوظائف في القطاع الخاص إلى 50٪.

كما ارتفعت نسبة تملك المواطنين للمساكن إلى الحد الذي يرشح المملكة لأن تكون أحد أعلى دول العالم في نسبة تملك المساكن.

بالأمس القريب كان استقبال البث التلفزيوني عندنا معضلة ما بعدها معضلة. أما اليوم فقد أصبحت المملكة من ضمن الدول العشر الأولى عالمياً في سرعات الإنترنت المتنقل. وخلال فترة وجيزة تضاعف عدد المنازل المرتبطة بشبكة الألياف الضوئية من مليون منزل إلى 3.5 مليون منزل. هذا التحول الرقمي الفريد من نوعه عالمياً مكن المملكة من استمرار العمل لأكثر من 94٪ من الجهات الحكومية والقطاع الخاص خلال فترة جائحة كورونا.

التقدم التقني والرخاء الاقتصادي والانفتاح الاجتماعي الذي نعيشه اليوم صاحبته إجراءات صارمة كفلت القضاء المبرم على التطرف والإرهاب. ولا يدرك هذه النعمة إلا من عايش سطوة المتطرفين ابتداء من ثمانينات القرن الماضي. وسرعة تقبل المجتمع السعودي لهذه الإجراءات الصارمة خير دليل على أننا شعب متماسح في طبيعته نحب السلام ونتقبل الآخر ونجيد التعايش مع غيرنا من الشعوب والثقافات. وها هي المرأة السعودية التي كنا حتى الأمس القريب نعتبر صوتها عورة تعيش في أيامنا هذه مرحلة تمكين غير مسبوقة، سواء في مجال الأحوال الشخصية أو في مجال العمل حيث زادت نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل خلال بضع سنوات من 17٪ إلى 31٪.

تحديث المجتمعات لا يتحقق بجرة قلم وإنما من خلال قرارات شجاعة وصعبة في نفس الوقت لما لها من تبعات. من هذه التبعات أنها قد تتصادم مع توجهات أو مصالح متجذرة لبعض الفئات في المجتمع، فئات طبقية ومهنية وغيرها والتي سوف تسعى بكل ما أوتيت من قوة لعرقلة مسيرة التحديث حفاظاً على نفوذها ومصالحها. كما أن هناك جهات في منطقتنا وخارج منطقتنا لا يروق لها أن ترى المملكة تحقق هذا التطور بهذه السلاسة وبهذه الوتيرة المتسارعة. فالحرب ضد الفساد والفاسدين، مثلاً، ليست معركة يوم أو يومين أو عام أو عامين، وقد عبّر عن ضراوتها سمو ولي العهد حينما وصفها بأنها هي حربه شخصيًا.

ولكي ندرك عظمة الإنجازات التي حققتها المملكة علينا أن نتذكر بأن التحديات التي واجهتها السعودية في مسيرتها التحديثية لم تكن تحديات داخلية بقدر ما كانت تحديات من جهات ووسائل إعلام خارجية حاولت بكل ما استطاعت من قوة تشويه هذه المسيرة وتعطيلها، فكلنا يتذكر موقف بعض الأبواق الإعلامية الغربية إزاء محاولة دولتنا محاربة الفساد والارتشاء والإثراء غير المشروع. بينما ظلت هذه الأبواق صامتة خرساء أمام ما حققته المرأة السعودية من اختراقات كبرى في مجال المساواة والتمكين وتوسيع دائرة الحقوق المدنية والسياسية. هذا الانفتاح وهذا الارتفاع في سقف الحريات الشخصية وغيرها من الإنجازات غير المسبوقة في وتيرة تسارعها يمر مرور الكرام على هذه الأبواق الإعلامية وتصمت عنه صمت المقابر، بينما هي تأخذنا بالشبهات.

إلا أنه بالرغم من تكالب وسائل الإعلام المعادية وشراسة هجماتها على القيادة السعودية وقراراتها ومحاولتها تصوير الإنجازات على أنها إخفاقات إلا أن المواطن السعودي لم يعد هدفاً سهلاً لهذه الأبواق فلديه من الوعي والثقة بقيادته ما يحصنه ضد هذه الحملات. فالمواطن السعودي محصّن بوطنيته ووعيه ضد كل من يريد ببلده سوءاً.

لقد عقدت دولتنا العزم على تحديث المجتمع وعصرنته وتطوير مؤسساته ودخول حلبة السباق مع الأمم المتحضرة. لكن الدولة لا تستطيع تحقيق شيء من ذلك ما لم يرص المواطنون صفوفهم خلف قيادتهم، ففي ذلك تسهيل للمهمة وتسريع لوتيرة الإنجاز.