لا يزال الأسى لانتهاء الإنتداب الفرنسي طرفة سائدة في لبنان، حيث تجدها تتكرّر، سنوياً، بمناسبة استذكار اللبنانيين، في الثاني والعشرين من تشرين الثاني(نوفمبر)، إعلان استقلال وطنهم.

كثيرون ترجموا هذا الأسى، فهاجروا الى فرنسا ولاذوا بها وطالبوا بالاستحصال على جنسيتها، وكثيرون غيرهم يودون، لو أنّ الحظّ يبتسم لهم فيجدون "مرقد عنزة" فيها أو في مثيلاتها من الدول.

وفي الزيارة الأولى للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون للبنان، إثر انفجار مرفأ بيروت الكارثي، وقبل أن يُبادر الى ما فُسّر أنّه "تعويم للطبقة السياسية اللبنانية"، طالبه لبنانيون بأن يتولّى هو قيادة بلادهم.

وقد انشغلت الصحافة الفرنسية بهذا الطلب وناقشت مشروعيته وقانونيته ومعطياته، دون أن تُعطي كبير اهتمام لأبعاده الحقيقية ولأسبابه العميقة ولخلفياته الكئيبة.

وانشغل اللبنانيون عن هذا الطلب، وهم الذين كانوا يسكبون دموعهم على أبنائهم الذين قتلهم الانفجار وجرحهم ونكبهم، وعلى عاصمتهم التي عاد الدمار إليها فزاد على مآسيهم المتراكمة مأساة كبرى.

وعلى عادتهم، أدار المسؤولون والسياسيون اللبنانيون آذانهم الصمّاء لصرخات اللبنانيين الذين يتوسّلون رئيس دولة أوروبية أن يكون هو حاكمهم، تماماً كما يديرون هذه الآذان الى "طرفة" اللبنانيين بالإعراب عن الأسى لانتهاء الإنتداب، ويتلهون عنها بتدبيج خطابات خشبية، والتباهي بعرض برقيات التهنئة التي تردهم من قادة دول العالم الذين، في غالبيتهم، لا يعرفون شيئاً لا عنها ولا عن مضمونها، إذ إنّها موضوعة بعهدة أصغر مجموعة، في أصغر دائرة حكومية.

أمام هذه الوقائع، بات ملحّاً تحديد مفهوم استقلال دولة، وتالياً معرفة ما إذا كان لبنان يُعتَبر من منظومة الدول المستقلة فعلاً.
إنّ أيّ شعب، عندما يسعى الى الاستقلال، إنّما يهدف من وراء ذلك إلى تقرير مصيره بنفسه، وخلاص بلده من مستغلّي خيراته، وإبعاده عن التضحية التي لا طائل منها خدمةً لـ "أجندة" تعني الدولة المحتلة أو المنتدبة أو الوصية، وبناء دولة همّها الأوّل والأخير توفير رفاهية أبنائها.

هذه العناوين هي اختصار كلّي لأهداف أيّ شعب يبذل الغالي والنفيس من أجل إنجاز استقلال بلاده، وعلى أساسها، يتمّ التعاطي مع ذكرى الإستقلال على أنّه عيد وطني.

إنّ مفهوم الإستقلال، في حال وجدت أيّ دولة نفسها تعيش واقعاً مغايراً لهذه الأهداف، يتلاشى.
وبهذا المعنى، فإنّ لبنان أكثر النماذج وضوحاً من الدول التي فقدت استقلالها.

إنّ الفئات اللبنانية التي تسخر من ذكرى استقلالها، هي تلك التي تجد أنّها تعيش في مساحة جغرافية تفتقد الى وجود دولة، بكل ما لكلمة دولة من معنى.
وهذه الفئات تلمس أنّ لبنان يعاني من أمراض مستعصية كثيرة، نكتفي بذكر ثلاث منها لا غير:

أوّلا، إنّ الهوة التي تفصل الشعب عن الطبقة السياسية عموماً وعن حكّامه خصوصا، باتت تُشكّل عبئاً كبيراً، لأنّها، بطريقة أو بأخرى، حوّلت الحاكم الى عامل تسلّط، الأمر الذي يجعله شبيهاً بالحاكم المعيّن من سلطة احتلال أو انتداب أو وصاية.

ثانياً، إنّ الشعب المستقل يتطلّع إلى أن تكون قواه المسلّحة النابعة صلاحياتها من الدستور والقوانين، هي التي ترعى أوضاعه وتهتم بمسائله المصيرية، ولكن عندما يجد أنّ هناك قوة مسلّحة غير دستورية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً ووجودياً بدولة أخرى لها أهداف لا تتقاطع مع أهدافه ومخططات تتناقض مع مصالحه، يعتبر نفسه شعباً تحت الاحتلال.

ثالثاً، إنّ الشعب المستقل يعبّر عن نفسه من خلال المؤسسات التي ترعى أمواله وصحته وأعماله، ولكنّه يفقد إيمانه باستقلاله، عندما يتلمّس أنّ هذه المؤسسات أصبحت لخدمة مصالح مجموعة من النافذين على حساب الصالح العام.

أمام هذه المعطيات، إنّ استقلال لبنان لم يعد واقعاً سعيداً يستدعي الاحتفال به من أجل الحفاظ عليه والدفاع عنه وصونه، بل أصبح ذكرى لحدث تاريخي لم يعد يتلاءم والحاضر.

وبناء عليه، فإنّ اللبنانيين الذين يدركون أنّهم مرتهنون أصبحوا ثلاث فئات، واحدة تتعامل مع الأمر الواقع وترضخ له، مثلها مثل تلك الفئة التي تتعامل في أزمنه الاحتلال مع القوة المحتلة، وفئة ثانية، تسعى بجهد الى تغيير واقع الحال، مثلها مثل الفئة التي تسعى الى التحرّر من أي احتلال، أمّا الفئة الثالثة فنال الإحباط منها، لذلك تجد نفسها أمام خيارين صعبين، إمّا الهجرة وإما الإستنجاد بجهة تعتبرها أفضل من الجهة التي تتحكّم بها.

إنّ الاحتلال ليس المعاناة الأقسى التي تمر بشعب، فهذه التجربة، على مرارتها، توحّده وتقوّيه وتصلّبه وترسم له هدفاً سامياً وأحلاماً وردية.

إنّ أقسى ما يتعرّض له شعب هو أن يعتبر نفسه محتلّاً، على الرغم من أنّه، نظرياً، قد نال استقلاله.

وهذه المعاناة الفائقة القسوة يعيشها اللبنانيون ويتلمّسون نتائجها في أمنهم واستقرارهم وأموالهم ومصالحهم وصحتّهم وسمعتهم، ولذلك فإنّهم، في مناسبة ذكرى الإستقلال، بدل أن يحتفلوا يتلووا ألماً.