«القصيدة الجيدة لا يخرجها الشاعر من كيس ولا تطلع له من أوراق اليانصيب، وإلا لكانت دواليب الحظ هي التي تصنع الشعراء وتقرر مصائرهم، إن الموهبة تأتي أولا، والشغل يأتي ثانيا، والثقافة تأتي ثالثا، والمعاناة اليومية تأتي رابعا، والكاريزما الشخصية تأتي خامسا»
( نزار قباني)

الشعر هو كلام راق يمشي على أنغام فطرية تميزه عن أي كلام آخر، تتمثل هذه الأنغام فيما يسمى موسيقى الشعر لكي تميزه عن العادي المنثور، والموسيقى مقرونة بالجمال الإنساني، لكون الإنسان بطبعه يميل بحق للجمال ويسعى إليه مع كل إمكانية تتاح له، ويعمل من أجل ذلك الكثير في سبيل إسعاد نفسه وإدخال البهجة إليها، سواء بواسطة الرؤية أو السماع، أو القراءة والكتابة، فكل جميل مرغوب فيه ترنو وتهفو إليه النفس، ويتوق إليه الوجدان ويتلهف إليه الشعور، فتكون حال الإنسان دائما الملاحقة بسلوك السبل المؤدية إلى قناعة الذات بأن شيئا يلج إلى جوَّانيتها تعمل لكي تتمكن من الإمساك به ولو بخيوط هي حتما ستؤدي إلى ما يجسد البهجة والسرور.

الشعر من أرقى الفنون الجميلة التي تدخل في عالم الجماليات بقوة مما يؤدي إلى القول هذا جميل.. وتبرز جمالية الشعر في معناه ومبناه معا حيث لا انفصام بينهما فإذا ما اهتز أحدهما تداعى الآخر وتدهور البناء عند من يهتم ويعمل على الشعر الصحيح، ويشعر بالجانب الجمالي الذي مكن لهذا الفن إلى أن يكون جميلا، وهذا الشعور يتأتى بفعل المتابعة والمران والقدرة على التذوق وفق حسٍ فطري مع اكتسابٍ شخصي، لكي يستطيع الإنسان أن يحس بالشعر وجمالياته ويعرف أسراره، فقد ألفت الكتب والمقالات والدراسات حول الشعر وجماله، وحول الشعر ذاته لكونه جميلا في أطر جميلة مما جعله خالدا متطورا منذ أقدم العصور إلى وقتنا الراهن، وهذا مشهود لا غبار عليه ولا اختلاف حوله إلا في حالات قد تكون في حكم الشاذ، نابعة من افتعال وحذلقة، أو التطفل وعدم الدراية وهشاشة الخلفية المعرفية والذوقية، ويبرز مثل ذلك في الصحف السيارة ووسائل التواصل والمواقع التي تدَّعى معرفة كل شيء فيها من قبل من يجدون مساحة يدلقون ما لديهم لكن سُرْعان ما تكون الانتكاسة والنكوص رجوعا إلى السبيل السليمة، والمهيع الصحيح الذي يؤدي إلى نبذ ما برز ومحاولة طمسه بعد ممارسة التجربة والدخول في أسرارها.

الأمثلة على ذلك كثيرة ولكن مجال ذلك يحتاج دراسة موسعة، غير أن الالتزام على قدر الحيز يعطي بعضا من الفسحة للتلميح لخطفات تحدث في الساحة الثقافية عنوة /غفلة أحيانا، والعنوة أساسها تملق الذات بعملها في نشوة وغرور حتى تظن أن ما تختزن من معلومات غير متوفر لسواها وهذا يرْسخ فيها وفق قناعة خاصة، وهو من المستحيلات في المنظور المعرفي العام إلا عند مثل هذه الحالات، والغفلة تأتي عندما يكون الترويج الإعلامي في أيدي أشباه أصحاب العنوة، أن أصحاب العنوة هم من يعملون ذلك، فالتكاثر على التلميع والإصرار على الواجهة المفتعلة واستمرارها هي التي تندرج في جداولها مقومات من يغفل ويستغفل وينظر وينتقد ويعلي صوته ضمن جوقة يردد ما يسمع دون تمعن ويستمر سادرا في الترديد ولو سئل عن الماهية والمعنى لِمَا يفعل ؟ ألجم عليه وصمت لكونه لا يملك الإجابة عجزاً.

كمثال صغير حدث ذلك حول الشعر موسيقى وإيقاعا، فعبر السياق الزمني عرف أن (الوزن) هو موسيقى الشعر عند الكثيرين، فصارت حقيقة الموسيقى هي الوزن في الدراسات عن الشعر كعرف متفق عليه بين الشعراء ودارسي الشعر، وحددت الموسيقى ماهية الشعر عن سواه من الكتابات الأخرى كشكل، ثم تبع ذلك المعنى الذي أخذ بالتطور تبعا للتطور في الحياة، ويتضح ذلك للمهتم وقارئ تاريخ الأدب العربي ما مر به الشعر العربي من مراحل تتلاحق تطورا من الشعر الجاهل إلى صدر الإسلام، فالأموي والعباسي ثم الإحياء بعد ما سمي بعصر الانحطاط، فمن عبيد الشعر كما يقول الأصمعي أوس بن حجر، وزهير بن أبي سلمى، والحطيئة، ومرورا بالغزليين عمر - جميل - كثير والأحوص، إلى الأخطل وجرير والفرزدق، وأبي تمام والبحتري، ثم أبي نواس والخليع وحمّاد عجرد وما لحق ذلك من دخول التجربة إلى انهيار الدولة العباسية والنكبات التي أدت إلى الدويلات، ومن ثم فترة الانحطاط وما ظهر خلالها من هزال وهشاشة، إلى الانبعاث بقيادة محمود سامي البارودي في أوائل القرن الماضي، ومدرسة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومطران، ثم عبدالرحمن شكري، وعباس العقاد، وإبراهيم المازني «جماعة الديوان» إلى جماعة «أبوللو» مع أحمد زكي أبي شادي - إبراهيم ناجي، على محمود طه، وغيرهم، وهذه الجماعة هي التي امتدت وما زالت ظلالها الرومنسية تَمْثُلُ بين حين وآخر عند بعض الشعراء العرب خاصة في الشعر الغزلي والطبيعة، أما ما عقب أبوللو فله صورته في اللاحق القادم.


أحمد زكي أبوشادي


أحمد شوقي


عباس العقاد


علي محمود طه