يعود الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله ليطلق في إطلالات تلفزيونية جديدة مواقف تصعيدية، تظهر في معظمها أنها رسائل إيرانية إلى الولايات المتحدة لا تعلنها طهران مباشرة. نتذكر خروج نصرالله قبل سنة من اليوم أي في مطلع العام 2020 وبعد اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني ومعه المسؤول في الحشد الشعبي العراقي مهدي المهندس، داعياً إلى مهاجمة القواعد الأميركية في العراق وفي المنطقة رداً على الإغتيال، من دون أن تكون الوجهة مقاتلة الإحتلال الإسرائيلي. انتهى هذا الملف برد إيراني صاروخي، إلى أن تقدمت الأمور في العراق بتكليف مصطفى الكاظمي ترؤس الحكومة العراقية وإنكفاء ميليشيات الحشد من دون أن يضع ذلك حداً لإطلاق الصواريخ على المنطقة الخضراء في بغداد.

المواجهة الإيرانية الأميركية لم تحدث في المنطقة وبقيت منضبطة على رغم اشتداد الحصار الأميركي على إيران وارتفاع سقف العقوبات في عهد الرئيس دونالد ترامب. خلال سنة كاملة إرتد نصرالله إلى الخلف مع تطورات لبنانية كارثية، من الإنهيار إلى انفجار المرفأ، فيما فُرضت عقوبات أميركية على أسماء لبنانية من بينها وزراء وحلفاء لـ"حزب الله" وكيانات ومؤسسات مقربة من الحزب، وتوجت أخيراً الضغوط باختراق بيانات مؤسسة القرض الحسن التابعة لـ"الحزب" لينكشف جزء من حساباته الخاصة المصرفية إلى العلن كبنية مستقلة عن الدولة. فيما بقيت الحدود اللبنانية مع إسرائيل هادئة بالرغم من تعهد نصرالله بالرد على سقوط أحد عناصر الحزب بغارة إسرائيلية في سوريا.

الرسائل الإيرانية إلى واشنطن بدت واضحة من خلال كلام نصرالله الاخير، وهو أمر يطرح أكثر من تساءل عما تريده إيران ولا تعلنه على لسان مسؤوليها، إن كان في ما يتعلق بالعراق أو بلبنان أو بالمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان وفي جنوب سوريا، واي استهدافات في المعركة المحتملة خلال الاسبوعين المقبلين أي قبل مغادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب البيت الأبيض. الجديد في كلام نصرالله بعد صمت طويل هو هجومه على المملكة العربية السعودية واتهامه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالتحريض على اغتياله، من دون أن يتطرق الى التهديدات الإسرائيلية، علماً أن السعودية لم تطبع علاقاتها مع إسرائيل، وكأنه يريد إيصال رسالة بأن كل ما يحصل في المنطقة متعلق بإيران وبـ"حزب الله"، السعودية متهمة بضلوعها به. وفي الوقت نفسه أعلن أنه يدعم الرئيس المكلف سعد الحريري لتأليف الحكومة، فكيف يصوّب على السعودية ويريد حكومة تحظى بالتأييد العربي والخليجي برئاسة سعد الحريري؟

يحتمل كلام نصرالله، وهو يأتي في ذكرى مرور سنة على اغتيال سليماني، تأويلات عدة. فبقدر ما كان السقف مرتفعاً ضد الأميركيين قبل سنة، ولم تحدث الحرب، بقدر ما يظهر السقف هذه السنة مرتفعاً ضد دول المنطقة، وأيضاً للداخل اللبناني. الرسالة الإيرانية تقول أن اي ضربة أميركية لإيران في الأيام الاخيرة لولاية ترامب وهو لا يتعرض للمحاسبة لا من الكونغرس ولا اي مؤسسة أخرى، سيكون الرد في المنطقة تحديداً أي ضرب مصالح دول خليجية بما يعني تهديد الاستقرار الإقليمي، وبالتالي فإن المعركة الإيرانية لن تكون بمواجهة إسرائيل على رغم الضربات المتتالية على مواقع إيرانية داخل سوريا، إنما مواجهة الأميركيين من الباب الخلفي، وهو ما يؤدي إلى تفجير الاستقرار إذا ما سارت الأمور نحو المواجهة العسكرية على مشارف تسلم الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن للرئاسة الأميركية.

يستحضر نصرالله دور سليماني، ويتولى مهمة إيصال الرسائل على خطوط عدة. أولها شد العصب الطائفي والمذهبي، ثم التصويب على أهداف إقليمية للاستثمار في المرحلة المقبلة مع بايدن وتخفيف الضغوط الأميركية عليها، وكأن الهدف اليوم هو تصوير أن مشكلة إيران يمكن حلها مع إدارة بايدن، وهي ليست مع الأميركيين والغرب عموماً إنما مع السعودية ودول الخليج. هذا التصور أيضاً يوضع في باب الاحتمالات، إذ أن الخطاب الإيراني الرسمي مختلف عن كلام نصرالله أقله في العلن، لكنه يحمل دلالات بأنه اذا تعرضت إيران لضربات خلال المرحلة الفاصلة عن تسلم بايدن، قد ترد على الاستهدافات الأميركية لمنشآتهم أو قواعدهم باستهداف نقاط خليجية وسعودية ايضاً. هذا الأمر حدث سابقاً مع استهداف شركة أرامكو، وهو له حسابات خاصة، أي الرد على الأميركيين في شكل غير مباشر باستهداف مصالح دول الخليج.

الرسائل الإيرانية أيضاً لها استهدافات لبنانية من خلال كلام نصرالله. أي ربط لبنان واستتباعه إيرانياً، إن كان في المواجهة مع الأميركيين أو أي معركة مع إسرائيل و"حزب الله". الهجوم على السعودية لا يساعد في تشكيل الحكومة، ولا الحصول على مساعدات خارجية إذا بقيت الامور وكأن لبنان مستتبع للإيرانيين. ولا يُصرف الحديث عن العلاقة الإيجابية مع سعد الحريري في أي مكان. فهو يصُعب على الحريري الامور ولا يُعجل في تشكيل الحكومة، ولا الاعتراف بها عربياً ودولياً، علماً أن إصرار "حزب الله" على المشاركة في الحكومة بتمثيل سياسي مباشر هو بحد ذاته يمنع تأليف الحكومة، فكيف بتسويقها والحصول على مساعدات من المجتمع الدولي؟. وفي كلام نصرالله الأخير، شروط جديدة لتاليف الحكومة، أي الاخذ بالاعتبار هواجس حلفائه، وكأنه يقول أن لا حكومة قبل انتهاء ولاية دونالد ترامب، ودخول المنطقة في مرحلة جديدة.

يتضح من كلام نصرالله الذي سيكون له تتمة بالحديث عن اغتيال سليماني، أن "حزب الله" طرف مقرر في الوضع اللبناني ومهيمن على أمور كثيرة، ليس بفائض قوته فحسب، إنما بارتباطه بمرجعيته الإيرانية وسحب البلد أكثر إلى الصراعات الإقليمية والدولية. لكن الامور أيضاً لها أوجه عديدة في الصراع منها اختراق مؤسسة القرض الحسن والعقوبات المتواصلة. وقد نشهد المزيد من الإجراءات الاميركية القاسية ضد لبنان ومصارفه، خصوصاً وأن اختراق المؤسسة التابعة للحزب يشير الى وجود بنية متكاملة خارج الدولة، لكنها قادرة على الالتفاف والتفلت من العقوبات وهو ما يؤدي إلى أخطار على الوضع اللبناني عامة. المرحلة صعبة وخطيرة، فمهما يكن سقف تصعيد الحزب ضد الأميركيين وغيرهم في المنطقة، رداً على العقوبات والحصار، إلا أن لبنان مهدد بوجوده، ومصيره على المحك.