ما أن أعلن اليسار التونسي عن فشله في الإمساك بعصا الثورة حتى بدا واضحا أن صفحة الثورة قد طٌويت بعد أن استلمت السلطة قوى وأحزاب لم تكن ذات صلة مباشرة بالحراك الشعبي الذي سبق سقوط نظام زين العابدين بن علي.

ولكن ما الذي دفع اليسار إلى التخلي عن الثورة بحيث بدت ثورة ناقصة؟

يكمن سر ذلك في الاغتيالات التي راح ضحيتها عدد من الرموز اليسارية التي كان لها دور معلن في تنظيم وقيادة الحراك الشعبي. كانت الجهات التي نفذت تلك الاغتيالات معروفة غير أن أحدا لم يجرؤ في حينها على الإفصاح عنها علنا بسبب التزام تلك الجهات أسلوب العنف نهجا لها في التعامل مع خصومها السياسيين.

كانت هناك هستيريا أدت بتونس إلى أن تقف على حدود الحرب الأهلية. وكانت الغزوات التي قامت بها جماعات دينية خارجة على القانون قد أوحت بأن نشوب تلك الحرب أمر ممكن.

لقد انسحب اليسار يومها من الحياة السياسية مضطرا. وكانت تقديراته صائبة غير أنها أدت في ما بعد إلى نتائج كارثية. فما حدث بعد ذلك أن حركة النهضة الإسلامية، التي استحوذت على السلطة تاركة بعض الفراغات لعدد من الأحزاب التي لا تملك تاريخا في الحياة السياسية، قد سارعت إلى وضع مشروعها السياسي بصبغته الدينية قيد التنفيذ بحيث أنها لم تخف رغبتها في مراجعة كل القوانين التي خلقت مجتمعا مدنيا في تونس منذ استقلالها.

سيُقال إن حركة النهضة بالرغم مما بذلته من جهود فشلت في مواجهة المجتمع المدني وإقرار قوانينها البديلة. ذلك صحيح. غير أن الصحيح أيضا أنها نجحت في المقابل في صنع آلية عمل للحياة السياسية لن تتخطى حدودها. تلك آلية مغلقة على نفسها ولا علاقة لها بالأفكار اليسارية المتمردة التي انطوى عليها الحراك الشعبي الذي هو أساس الثورة التي سلمت قيادتها لقوى لا تعرف عنها شيئا.

يمكنني القول هنا إن فشل اليسار التونسي كان تمهيدا لفشل تونس في أن تحافظ على روحها التي كانت تُحتضر. تلك الروح التي لا يمكن إحياؤها إلا من خلال العودة إلى أفكار التنويريين التونسيين الذي تنبذهم حركة النهضة وتعتبرهم كفارا.

فشلت تونس يومها ونجحت حركة النهضة.

ذلك ما نجم عن تراجع قوى اليسار التي خشيت أن يقود الصراع بينها وبين التيارات الدينية إلى حرب أهلية، تونس وهي بلد صغير في غنى عنها. ولكنها بمقاييس اليوم تقديرات خاطئة. فتونس لم تعد تونس بعد عشر سنوات من الثورة. لقد هجرها السياح قبل أن يضرب كورونا العالم بسبب عمليات القتل المجاني التي غُلفت بشعارات دينية. وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسة للانهيار الاقتصادي الذي خسف بها الأرض.

ولكن تلك الجرائم ما كان من الممكن أن تقع لولا الفوضى السياسية التي دخلت فيها الدولة وهي لا تميز بين الوجه والقفا، بين الخطأ والصواب، وبين الحقيقة والوهم. لقد كانت هناك دائرة تدور بأجهزة الحكم بعيدا عن وظيفتها الخدمية بحيث كانت كل المشاريع التي تُقدم في مجلس النواب لا تتعلق بحياة الناس العاديين بل تعبر عن الصراع بين الكتل السياسية.
كان شعار حركة النهضة "إن حُرمت من الحكم المباشر فلا أحد يحكم بدلا عني" ونجحت في تنفيذ ذلك الشعار على أرض الواقع. كل الحكومات التي كان رؤساؤها غير محسوبين على حركة النهضة أقامت في غرف الإنعاش إلى أن رحلت. وإذا ما كان الشعب التونسي لا يرغب في رئيس حكومة نهضوي فعليه أن يذهب إلى غرفة إنعاش.

ذلك هو الواقع الذي انتهى إليه التونسيون الذين خدعوا أنفسهم باستمرار الثورة بالرغم من أن هناك عشرة سنوات قد سُرقت من حياتهم سُرقت معها الكثير من المواهب والثروات والأحلام والمشاريع الوطنية.

ما يحدث اليوم في تونس من حراك سياسي إنما تجسيد للآلية التي اخترعتها حركة النهضة. دوران في الهواء، الايجابي فيها أن يتم التوافق بين قوى، الأكثر نزاهة من بينها يفكر في أن تتخلص الحكومة من الفاسدين. أما الشعب المحتج على تردي أوضاعه الاقتصادية، الشعب الذي صار يقارن بين ما هو عليه اليوم وبين ما كان عليه زمن بن علي بحسرة فإنه يقف خارج قوسي الصراع الراهن.

لقد تم تدمير تونس من خلال عزل الدولة عن الشعب وذلك من خلال ربط الحكومة بآليات عمل سياسية تفصلها عن وظائفها الخدمية. فما من مشاريع يمكن للحكومة انجازها يعود نفعها على الشعب.

دورة عدمية لأمنيات شعب ضائع.