إحتجز أبناءه لتسع سنوات متتالية في ملجأ يقع تحت الأرض داخل مزرعة منعزلة بانتظار “نهاية العالم”. الا ان فرار أحد ابنائه ليلا الى احدى الحانات المجاورة ملتمسا انقاذ اشقائه المحتجزين، أسفر عن انطلاق تحقيق جنائي للشرطة الهولندية، حيث اتضح ان ربّ الاسرة “غيريت يان فاي دي” البالغ من العمر 67 عاما كان لديه هوس بنهاية العالم، كونه يتبّع احد الطقوس الدينية الغامضة.

في العام 2018 تمّ اكتشاف أسرة تتألف من ستة أبناء تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاما وقد عزلهم والدهم عن العالم الخارجي في مزرعة نائية وحرمهم طيلة سنوات من الانتساب الى المدارس، حيث باتوا يعتاشون على زراعة الخضار وتربية الماعز خلف سياج المزرعة. وجّه مكتب المدعي العام في شمال هولندا تهما الى ربّ الاسرة باحتجاز حرية العائلة وبإساءة معاملتها إثر ذلك استعانت الشرطة الهولندية بفريق من العلماء والاخصائيين النفسيين لفهم تلك الظاهرة الغريبة.
لم تكن الشرطة الهولندية بحاجة للاستعانة بأي فريق لتحليل الاحداث الغامضة التي دارت داخل المزرعة المنعزلة، اذ كان يكفي سفارتها في لبنان ارسال القليل من التقارير السياسية حول سلوك معظم زعماء الطوائف والأحزاب والتيارات اللبنانية، ليتمكن القضاء كما الرأي العام الهولندي من تفسير ظاهرة ربّ الاسرة الذي كان يزرع في عقول عائلته أفكارا غريبة تثير مشاعر الخوف والهلع من الغير، كما كان يبثّ احاسيس التوجس والكراهية ضد كل من يقطن خارج حدود مزرعته.

حالُ ربّ الأسرة الهولندي يتشابه الى حد بعيد كحال غالبية الزعامات اللبنانية الذين شيّدوا بالأمس مزارعهم ضمن مساحة الوطن، بعد أن أفلحوا في غرس شعور الارتياب والخشية وتعميق مشاعر التوجس والحذر بين الطوائف والمذاهب اللبنانية، ليتمكن كل واحد منهم التحكم تحكما مطبقا برقاب عباده واسترقاقهم، بعد أن رفع كل زعيم راية مزرعته، فوق راية الوطن!

بعد اتهامه من جانب القوى المحلية والعالمية بالمشاركة مع نظام الأسد، في تنفيذ جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 2005 عانى “حزب الله” من عزلة سياسية شديدة. بالتزامن عانى “التيار الوطني الحر” من الإجحاف لعدم قدرته على انتزاع حصة المسيحيين التي طالب بها قوى 14 آذار، أثناء فترة الانتخابات النيابية العام 2005. لقد نجم عن ذلك تحالف بين عقدة العزل وعقدة الإجحاف، تتوّج بإحساس الجانبين التاريخي بعقدة الأقليات، التي حاول رفعت الأسد تسويق نظريتها لغرض التصدي “للمد السنّي في المنطقة”. فتمّ توقيع ورقة التفاهم التي أُعلَنت ولادتها بتاريخ 6 شباط 2006 في كنيسة مار مخايل، حيث تراءى لنا في حينه ان الرئيس ميشال عون سيمسك بيد “حزب الله” ويسحبه نحو الداخل اللبناني، لكن تبين لاحقا بأن السيد حسن نصر الله هو الذي قبض على عنق “التيار الوطني الحرّ” وجرّه الى العمق الايراني!

في السواد الأعظم من خطبه يسعى السيد نصرالله الى تعظيم وتمجيد الامة الإيرانية والاشادة بقوتها العسكرية، بل يذهب الى تشبيه قادتها الأحياء منهم والراحلين بالقديسين والانبياء الصالحين، فيما يسدد بين الحين والأخر وابلا من الاتهامات المهينة والمذّلة بحق سائر الدول والشعوب العربية والخليجية وفي صدارتهم المملكة العربية السعودية، واصفا إياها بالدولة الضعيفة التي أهملت القضية الفلسطينية والمتآمرة على إيران وحزب الله ومحور المقاومة والممانعة، دون اكتراثه انه بكلامه هذا انما يُلحق الاهانات الجارحة والعميقة بالهوية والكرامة العربية، التي يعتز القسم الأعظم من الشعب اللبناني والمجتمع العربي والعالم الاسلامي بالانتماء اليها، إضافة انه يُمعن في الحصار الاقتصادي الخانق على شعب لبنان!

بل أكثر من ذلك، يصرّ السيد نصرالله أنه لولا صواريخ حزبه لما كان للبنان أية مكانة على الخارطة الدولية، متجاهلا ما أدلى به وزير خارجية فرنسا حول زوال دولة لبنان وبأن الانهيار السياسي والاقتصادي في لبنان يشبه غرق سفينة “تايتانيك” لكن من دون موسيقى. كما يشدّد أمين عام “حزب الله” بأن السيد مصطفى بدر الدين المتهم بجريمة قتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري، هو بطل وطني وقومي بل قديس يجب إقامة نصب تذكاري له في أحد شوارع العاصمة. وانه لولا “حزب الله” لكان تنظيم داعش الإرهابي يسرح ويمرح على كل الأراضي اللبنانية، ملغيا بذلك دور جيشنا الوطني وإرادة الشعب اللبناني في الدفاع عن أمنه وأرضه ووطنه، ومتناسيا بأن “مؤسسة المهدي” التابعة لـ “حزب الله” هي التي نقلت مقاتلي “جبهة النصرة وداعش” مع عائلاتهم بحافلاتها المكيفة، بعد معركة جرود عرسال العام 2017 نحو محافظة دير الزور السورية.

إننا نتساءل، هل يَعي السيد نصرالله انه بتكراره لتلك المواقف المستفزّة انما يمعن في تمزّيق النسيج الوطني ويزرع الانشقاق ويعمّق شعور الكراهية والبغضاء بين أبناء الشعب اللبناني؟ وبأن كل صواريخ “حزب الله” وفوقها الصواريخ الإيرانية ليس في مقدورها مساندة الاقتصاد اللبناني المنهار ومساعدة الشعب على النهوض؟ وبأن الإفراط من التذكير بتحرير الجنوب اللبناني وتكرار الاشادة بانتصار حرب 2006 أو التنويه بأهمية دور المقاومة، لا يقدم حلا للكارثة الوبائية التي تفتقر الى اللقاحات والمستشفيات لا الى الخطابات، لإنقاذ أرواح اللبنانيين البريئة من جائحة كورونا؟

لم يعد لبنان الجريح ولا شعبه المنهك يقوى على ترقب نتائج مغامرات السيد حسن نصرالله ووعيده المتواصل في اشعال الحروب العبثية المدمرة للاقتصاد والمجتمع والكيان اللبناني، والتي لا تصب الا في صالح الجمهورية الإسلامية الإيرانية وملف المفاوضات النووية مع أميركا. ولأن استمرار مغامرات “حزب الله” ستسفر حتما نحو تمزيق الكيان اللبناني وعودة بزوغ المزارع الطائفية والمذهبية المتوجسة تاريخيا من بعضها البعض، فترقبوا أن تبحث كل مزرعة عن قوة إقليمية او دولية تحتضنها وتحصّنها من سطوة “حزب الله” لمنع تحويلها الى منصة للصواريخ الإيرانية.

هذا ما جرى على مشارف العام 1975 حين دخل لبنان في نفق الحرب الأهلية، يومها امتزجت تناقضات وهواجس الطوائف والمذاهب اللبنانية وتشابكت مع النزاعات والصراعات الدولية. حروب المزارع الدموية التي استمرت 15 عاما وكلفت لبنان الكثير من الموت والدمار والنزوح والهجرة، وفي النهاية سقطت بندقية المنظمات الفلسطينية ومعها الحركة الوطنية اللبنانية واندثرت معهما مشاريع الفدراليات والمزارع الانعزالية والتقسيمية. فهل على اللبنانيين اعادة المشهد الدموي والمفجع من جديد؟

اللبنانيون بغالبيتهم يا سيد نصر الله، لا يريدون اشعال الحروب مع دولة إسرائيل ولا حتى توقيع معاهدة سلام معها، بل لربما يبحثون عن حياد يطرحه سيادة البطريرك الماروني او هدنة ما لينقذوا رؤوسهم من مصير مأسوي قادم بل كارثي يلوح في الأفق، بعد ان عمل جلّ حكامه بالتواطؤ مع المصارف على اختلاس اموال الناس وافقارهم عن سابق تصوّر وتصميم. فيما كان أمين عام “حزب الله” ونوابه الذين أخفقوا بالدفاع عن ودائع اللبنانيين، يرددون على مسامعنا بأن معركة مقاومة الفساد ضد الطبقة السياسية والمصارف اللبنانية المرتكبة أشد عسرا من إزالة دولة إسرائيل المدججة بالرؤوس النووية، وأن مؤسسة “القرض الحسن” هو الحلّ السليم والمصرف البديل. وبأن الحزب يعلم ما في مرفأ حيفا ولا يدري ما في مرفأ بيروت. وأن سقوط المواطنين الابرياء في 7 أيار يوم غزوة بيروت واقتحام الجبل كان يوما مجيدا. وبأن المتهمين باغتيال الشهيد الرئيس رفيق الحريري هم في منزلة القديسين. وأن أميركا على شفا السقوط امام اقدام الأمة الإيرانية العظيمة التي مازالت تبحث عن لقاح لشعبها ضد جائحة كورونا، لا تنتجها مختبرات الإمبريالية الأميركية ولا يصنّعها الاستعمار البريطاني، فيما إسرائيل ستنهي خلال بضعة أسابيع تلقيح كامل شعبها. وبأن المختبرات الإيرانية التي تعمل دون كلل على زيادة تخصيب الأورانيوم لإنتاج قنبلتها النووية للأغراض العسكرية، لم تتمكن بعد من اجتياز المراحل الأولى من التجارب السريرية للقاح كورونا لإنقاذ الشعب الايراني من الهلاك. وأن “حزب الله” الذي يرفض الاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين، يبارك ولو بخجل جولات المفاوضات لترسيم الحدود البحرية مع دولة إسرائيل!

فإلى متى سنستمر في الصمت وتحمّل أمواج من المغالطات وعواصف من التناقضات، والإصغاء الى جبال من النظريات الخاطئة مع التبريرات والتفسيرات والحجج والذرائع البعيدة كل البعد عن المنطق والواقع، قبل ان يتفجّر لبنان الى أشلاء تهوي جميعها في قعر جهنم وتكتوي بناره، فيزول حلمنا اللبناني ويختفي ليتحول الوطن الى مزارع معزولة ومتقاتلة شبيهة بمزرعة ربّ الأسرة الهولندي، الذي مازال ينتظر من داخل زنزانته نهاية العالم؟

ارحم شعبك ولو قليلا يا سيد نصر الله… لبنان ليس الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبيروت ليست منصة لصواريخ المرشد الأعلى الدقيقة منها والعشوائية. انه جدار العروبة الذي ما انفك ملالي طهران منذ ولادة الثورة الخمينية يعملون على هدمه بمعاولهم او أقله احداث فيه بعض الفجوات والثغرات ليتسللوا عبره الى عمق العواصم العربية. جدار عربي صلب حتى لو استخدموا لتفجيره كل الاطنان من مادة “نيترات الأمونيوم” التي كانت خلسة مخزّنة في العنبر رقم 12 داخل مرفأ بيروت، فانه قد يهتز قليلا ولكنه حتما لن يقع!

جدار عربي متين وراسخ ببصيرة اللبنانيين المتنورين بشعاع الحرية والعدالة والتعددية والانفتاح على ثقافة الغرب والشرق والحضارة الإنسانية التي تسكن داخل كل واحد منا. لا حائط بعثي متصدّع صنيعة الاستبداد والاستعباد والطغيان والحزب الحاكم الواحد والبراميل المتفجرة وتعذيب أطفال درعا واعتقال الاحرار والاغتيالات الغامضة بكواتم الصوت او بصوت ومتفجرات ميشال سماحة وتفجير مسجدي التقوى والسلام بالسيارات المفخخة، أو نظام أسدي مترنح أرسلتم لنجدته كتائب النخبة في “حزب الله” تحت عنوان مكافحة الإرهاب التكفيري، ليسقط على الأراضي السورية لا على بوابة القدس الشريف او جبهة الجولان المحتلة، أكثر من خمسمائة ألف مسلم بين شهيد وضحية على أيدي وكلاء الجمهورية الإسلامية الايرانية، وذلك نقلا عن فائزة رفسنجاني نجلة الرئيس الإيراني الراحل، التي أضافت “ان سياسة المقاومة لم تترك لنا شيئا لنفتخر به… ولا حتى صديق”!