«أيُّ قسوة أن يتعرض هذا البلد، وهو مهد الحضارة، لضربة بربرية، وتُدمّرُ فيه أماكن العبادة القديمة. وفيه الإرهاب يبيد بقسوة آلاف المسلمين والمسيحيين والإيزيديين، ويُجلى آخرون بالقوة، أو يُقتلون». قال ذلك رئيس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس خلال زيارة الأسبوع الماضي للعراق استغرقت ثلاثة أيام، وهي أول زيارة لرئيس الكنيسة الكاثوليكية إلى العراق. وقبله أخفق اثنان من رؤساء الكنيسة الكاثوليكية، التي يشكل أتباعها أغلبية مسيحيي العراق، في زيارة بلاد الرافدين. يوحنا بولس الثاني ألغى زيارته نهاية القرن الماضي لتوتر العلاقات بين واشنطن وبغداد، وإخفاق محاولته التوسط بين صدام حسين والإدارة الأميركية وقتها. ثم ألغى بندكت الخامس عشر زيارته التي كانت مقررة لأسباب أمنية. ولم يتراجع البابا فرانسيس عن قراره زيارة العراق، والذي كان أول وجهة له بعد اندلاع الجائحة التي أصابت ثلاثة ملايين شخص وأودت بحياة 100 ألف في إيطاليا حيث مقر الفاتيكان. واستمرت الشكوك حول زيارة البابا فرنسيس حتى عند شروعه فيها، حين قصفت عناصر مجهولة قاعدة عسكرية أميركية في العراق قبيل يومين من بدء الزيارة. والتقي رئيس الكنيسة الكاثوليكية -ودون قناع غالباً- الآلاف في العراق، حيث لم يُشرع بالتلقيح ضد «كوفيد-19» إلا قبيل أيام من الزيارة.
واستّهل البابا زيارته للعراق عصر يوم الجمعة الماضي في بغداد، حيث رأس القداس في «كاتدرائية القديس جوزيف». وكالصوت الصارخ في البرية المذكور في الإنجيل، دعا البابا في العراق إلى السلام قائلاً: إن «السلام أقوى من الحرب، والأمل أقوى من اليأس». والحاجة عظيمة للأمل في العراق، الذي غادره نحو مليون مسيحي بعد الغزو الأميركي عام 2003، وهم من أقدم مسيحيي العالم، وقد قطنوا العراق منذ القرن الأول للميلاد، ويقل الآن عدد الباقين منهم عن ربع مليون، معظمهم يعيش في سهل نينوى.
وشملت زيارة البابا فرنسيس مناطق كانت تحتلها «داعش» في الموصل، وفيها دعا البابا خلال صلاة الأحد بين أطلال كنيسة هدمتها «داعش»، من أجل السلام الأبدي للقتلى والغفران للقتلة.. واستقبله المسيحيون بالتراتيل والهتاف، وأكّدّ بعضهم أنهم كانوا واثقين من زيارة البابا. وذكرت يسرى مبارك (33 عاماً) أنها كانت حاملاً في شهرها الثالث عندما اضطرت قبل سبع سنوات لمغادرة العراق مع زوجها وابنها بملابسهم فقط. «وعندما عدنا لم يكن بقي شيء مما تركناه غير أحلامنا، وها نحن هنا والبابا قادم»! وبعد نينوى اختتمت الزيارة يوم الأحد في أربيل، حيث أقيم قدّاس في ملعب «الحريري لكرة القدم» حضره آلاف الناس.
ورّكَزَ الإعلام الغربي على «اضطهاد مسيحيي العراق، وتعرُّض المسلمين السنة للمضايقات من قبل المليشيات الشيعية في حواجز التفتيش». وخلافاً لذلك، اعتبر تقرير «لغز لقاء البابا والسيستاني»، المنشور في صحيفة «آسيا تايمز»، اعتبر أن «الزيارة تاريخية بكل معنى الكلمة. إذ لم يحدث قبل الآن لقاء بين البابا والزعيم الروحي للطائفة الشيعية». وتوقعت الصحيفة «مرور وقت طويل قبل إدراك التأثير الكامل للقاء الذي استغرق 50 دقيقة، ووقف خلاله السيستاني مرتين، وهو المعروف عنه أنه لا يقف لأحد».
وبعد النجف سافر رئيس الطائفة الكاثوليكية جواً إلى مدينة «أور» التاريخية، حيث ولد نبي الله إبراهيم الخليل، والذي يعتبره البابا فرنسيس «الصلة العامة الملهمة التي تجمع العالم المنقسم غالباً».
وفي سعيه لوحدة البشر، ساهم البابا عام 2016 في اجتماع تاريخي ضمّ رئيسي الطائفتين المسيحيتين الكاثوليكية والأرثوذكسية، البالغ عدد أتباعهما نحو ملياري نسمه. وفي عام 2019 حضر اللقاء التوحيدي بين الأديان السماوية الثلاثة في مدينة أبوظبي، عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة.
الجغرافيا أم التاريخ، وقد فرضت أول رئيس للكنيسة الكاثوليكية من خارج الدائرة الأوروبية، وتحديداً من أميركا اللاتينية حيث ولد البابا فرانسيس في الأرجنتين، وصار الصوت الصارخ في العراق، الصوت الصارخ في العالم.