جلّ ما يعنينا من نابليون بونابرت، أنه قاد الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، وأتى لنا بالمطبعة، وعلماء الفلك والرياضيات، والكيمياء، الذين مارسوا سحرهم على الناس، وافتتح مستشرقوه «علم المصريات». هذا ما يتعلمه طلابنا، مع أن نابليون جاءنا في نهاية القرن الثامن عشر بمشروع استعماري ضخم، لو قُدّر له النجاح لَغيّر وجه المنطقة. نابليون لم يرَ في مصر أكثر من منصة انطلاق، للسيطرة على الطرق التجارية صوب الهند، وإيقاف زحف المشروع البريطاني المعادي. لم يتوانَ الجنرال الكورسيكي المتعطش للسلطة، عن مراسلة شريف مكة حينها، غالب بن مساعد، وكل من له نفوذ في الجزيرة العربية، بهدف التعاون معهم للتخلص من الدولة العثمانية. بثّ جواسيسه في الحجاز، وبدأ يحيك مؤامراته، وهو يعلم القيمة الروحية والسياسية لهذه المنطقة الإسلامية الحساسة، وأهمية سيطرته عليها.
جاء الرجل بحلم بناء إمبراطورية شرقية، مثله الأعلى الإسكندر، وطموحه إحكام قبضة أوروبا على المشرق. أما المطبعة التي حملها معه على متن سفينته «لوريان»، وأصبحت رمزاً للتنوير، وتطبع بالعربية والتركية والفرنسية واليونانية، فأول ما أخرجت بلغة الضاد، قبل أن يهبط على أرض مصر، ذاك النداء الموجه إلى المصريين، المليء بالادعاءات المعسولة والأكاذيب المضللة: «أخبروكم بأنني جئت لتدمير دينكم، لكن لا تصدقوهم. أخبروهم أنني جئت لاستعادة حقوقكم ومعاقبة المغتصبين، وأنني أحترم الله ونبيه والقرآن أكثر من المماليك... أطلب منكم أن تخبروا الناس أننا أصدقاء حقيقيون للمسلمين». لا يزال إلى اليوم، هناك من يبحث فيما إذا كان نابليون قد اعتنق الإسلام، لكثرة ما استعرض حبه لدين محمد. والحقيقة أنه قرأ عن الشرق الكثير، وكان متمرساً في استمالة المشاعر.
الانقسام كبير حول نابليون، فبينما تستذكره فرنسا هذه الأيام في المئوية الثانية لوفاته، ثمة من يعده عبقرياً وبطلاً ويرى آخرون فيه بطّاشاً مستهتراً تسبب في موت الملايين، من دون أن يرفّ له جفن، وأعاد العبودية بعد أن قضت عليها الثورة الفرنسية. غير أن هذا القائد العسكري الذي أصبح إمبراطوراً، يستحق من بلاده تكريماً فعلياً لا مجرد استذكار حذر ومتردد. فقد صنع لفرنسا اسماً ومجداً، وبنى مؤسسات دولتها الحديثة، ووضع أسس القوانين المدنية، وأرسى المعاهد التعليمية، وتحول إلى أسطورة.
ألقى إيمانويل ماكرون بهذه المناسبة خطاباً تاريخياً، أعاد فيه الاعتبار لمن أراد اليسار أن يلفظه أخلاقياً، داعياً إلى قراءة الرجل في سياق زمنه هو، لا وفق التمنيات الحالية. كرر ماكرون عبارة «نابليون جزء منّا»، و«علينا أن نقبل إرثنا كما هو». ليس بالضرورة أن توافق على كل ما سرده ماكرون حول عظمة نابليون وفرادته، فتلك مسألة أخرى. لكن القادة الكبار لا يموتون، ولا ينتهي تأثيرهم بتجاهلهم أو شتمهم، أو حتى تبجيلهم. المصالحة مع الماضي، تستدعي مواجهة نقدية صادقة، والاعتراف بالحقائق، وبأننا نسل لأجدادنا، واستمرارية لهم، حتى أولئك الذين لا نكنّ لهم إعجاباً.
يبدو للوهلة الأولى أن المناسبة فرنسية بحتة، لكن ماكرون أشاد بالحملة الفرنسية على مصر، وبأنها لم تكن عسكرية فقط وإنما علمية أيضاً، وبأن قائد الحملة أخذ برفقته 150 عالماً في مختلف المجالات، «وعادوا إلينا بثروة من المعارف». وهذا دقيق. فاللجنة العلمية التي شكّلها قائد الحملة لتدرس حضارة مصر، كانت محرجة من شعار نشر الحضارة، عنوان الحملات التوسعية الإمبريالية يومها. يقول كاتب فرنسي عن تلك الفترة: «كنا في أعقاب الثورة الفرنسية التي اقتنعت بضرورة أن تنطلق وتنشر الحضارة في العالم، لكن التقديرات كانت تشير إلى أن مصر أصل الحضارة». هكذا استبدل بشعار «نشر الحضارة» شعار «إعادة الحضارة إلى مهدها». كان نابليون يدرك جيداً قيمة المكان الذي يدخله. قال وهو يقف في الجيزة ويتأمل عظمة التاريخ: «أيها الجنود، لكم أن تتخيلوا أن أربعين قرناً تتأملكم من قمم هذه الأهرامات».
مشكلتنا اليوم، ليست مع نابليون، بل مع أنفسنا، وكيف نقرأ هذا التاريخ؟ هل نواصل رؤيته من منظور استشراقي- ماكروني، من دون أن نركّز على الخسارة المدوية لنابليون في عكا، وغرق الأسطول الفرنسي في ميناء أبو قير وفتك الطاعون بجنوده وهزيمته وعودته هارباً إلى بلاده؟ ألا يفترض أن نذكّر باستمرار بأن المصريين لم يستقبلوا نابليون كالفاتحين، والحروب الصليبية كانت لا تزال تؤرق الأذهان، لا بل كان اللقاء عنيفاً وعديم الودّ، رغم المحاولات المستميتة لنابليون، لممالأة الأهالي، ومشاركته مع جنوده في إحياء المناسبات الدينية، مع تقدير خاصٍّ منه للمولد النبي؟
تحت وقع الحملة الفرنسية على مصر، حصلت الصدمة؛ استفاقت مصر على حقيقة أن ثمة حياة أخرى، مختلفة تماماً، وأن الزمن سبقنا. لكن مصر كانت ستصحو، إن لم يكن بمهماز نابليون، فبغيره. أوليست، اليوم، مناسبة لإعادة قراءة تلك الحملة التي قرر العرب أن يؤرخوا بها لبداية النهضة، كأنهم قبلها لم يروا أي نُذُر تغيير؟ هل هذا فعلاَ صحيح؟ إذا كانت فرنسا بحاجة لمراجعة ما فعله نابليون مرة، فنحن بحاجة لأن نفعل مرات. وعندنا من الشخصيات الجدلية والأحداث، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام الباحثين النقديين ليقوموا بجهد جريء وجبار، وتحويل هذه المواضيع إلى نقاشات عامة، يسهم فيها الجميع لبلورة رؤية للمستقبل، لا يمكن أن تحصل من دون فهم الماضي.