يستحيل أن يخرج حاكم مصرف لبنان رياض سلامة من الكارثة المالية التي حلّت بلبنان "سليماً ومعافى"، إلّا بأعجوبة تُقنع اللبنانيين الذين ناموا على وعد بأنّ" الليرة بألف خير" ليصحوا على كابوس تجسّد في انهيار هذه الليرة وفي تحوّل الدولارات التي وضعوها في المصارف اللبنانية الى "لولارات"، بأنّه، كما يقول مؤيّدوه من مصرفيين وإعلاميين وسياسيين، "أبيض مثل الثلج".

ولأنّ سلامة "متّهم" لبنانياً بأنّه استغلّ منصبه في عمليات "تغذية الفساد السياسي" و" تضخيم ثروته على حساب الودائع المصرفية"، فلا مفرّ أمامه من الخضوع لمساءلة تجريها مرجعيات موثوق بها.

وبهذا المعنى، يمكن اعتبار فتح ملفاته في الخارج "نعمة"، سواء للبنانيين والمودعين في المصارف اللبنانية الذين من حقهم أن يعرفوا المسؤول عن الكارثة التي ألمّـت بهم، أو لرياض سلامة نفسه الذي يُعطى الفرصة تلو الفرصة، لإثبات "بياض" مصادر ثروته المالية والعقارية، في الخارج.

إنّ إقدام "النيابة العامة الوطنية المالية" في فرنسا، بعد نظيرتها السويسرية وقبل نظيرتها البريطانية، على فتح "تحقيق أوّلي" في مصادر موجودات سلامة المنقولة وغير المنقولة، تقع في هذا الإطار، لأنّه، حتى إشعار آخر، ليس مدّعى عليه ولا متّهماً، بل هو انتقل من شخصية تتعرّض لوابل من الإتهامات الشعبية والسياسية والإعلامية إلى شخص موضوع شكوى تريد سلطة الملاحقة أن تعرف إذا كانت مبنية على أسس جدية، لتتخذ في ضوء النتائج الإجراء المناسب.

وينقل هذا المسار سلامة ومتّهميه من "الحرب الإعلامية-السياسية" إلى "المواجهة القانونية-القضائية"، حيث للمستند، بغض النظر عن اتجاهه التوريطي أو التبريئي"، قيمة كبرى.

وبعد اليوم، لن ينفع رياض سلامة أن يرد على هذا المسار بالإشارة الى أنّه "كبش محرقة" و"ضحية هجوم عقائدي" و" هدف لمنافسين"، بل عليه أن يثبت ما قاله وكرّره، في الإعلام المحلي والعالمي، بأنّ ما يملكه في الخارج مصدره حسن استثمار الأموال التي كان قد حصل عليها من عمله في القطاع الخاص العالمي، قبل وصوله الى حاكمية مصرف لبنان.

ولا شك في أن رياض سلامة الذي عمل لأكثر من عشرين عاماً في مجال التوظيف المالي العالمي، قد جنى ثروة، إذ إنّه استثمر محفوظات مالية ضخمة لمصلحة عدد من أصحاب المليارات، من بينهم الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي رعى، بعيد وصوله الى رئاسة الحكومة اللبنانية، تعيينه حاكماً لمصرف لبنان في آب(أغسطس) 1993.

ولكنّ سلامة، وفق تحقيقات صحافية تعدّت النطاق اللبناني، يملك ثروة أكبر من تلك التي يمكن أن تنتج عن استثمار الأموال التي كان قد جناها، فهو "استفاد شخصياً من الهندسات المالية التي أطلقها مصرف لبنان" وهو "جنى الكثير من صرف النفوذ الذي أُعطي له" وهو "هرّب أموالاً طائلة لنفسه في وقت كانت المصارف اللبنانية قد صادرت الودائع" وهو "أنشأ شركات، بعضها في الجنّات الضرائبية، حيث أخفى مالاً فاسداً بأسماء أقرب الأقرباء والمعاونين".

إنّ أقوال سلامة و"مزاعم" المدّعين عليه، هي محورية في "التحقيق الأوّلي" الذي أطلقته باريس من خلال "أخطر" مرجعية قضائية فيها، إذ تملك خبرات واسعة في مطاردة الجرائم المالية وصلاحيات واسعة تجاه من تدّعي عليهم، وغالبيتهم ممّن يطلق عليهم لقب "أصحاب الياقات البيضاء".

من حق الجهات التي ضغطت لملاحقة سلامة أن تُهلّل للإجراء الفرنسي لأنّه يعطي قوة دفع للإجراء السويسري ويشجّع إجراء مرجواً من بريطانيا، ولكن لا جدوى من استهجان سلامة وفريقه من الإجراء الفرنسي، لأنّ شخصيات فرنسية أقوى من سلامة، مثل الرئيس السابق نيكولا ساركوزي ورئيس الحكومة السابق الذي كان أوفر المرشحين حظاً للرئاسة فرانسوا فيون، لم ينفعهما الإستهجان.

وسلامة هو الشخصية العربية الثانية التي تثير الإتهامات الموجّهة إليه اهتمام "النيابة العامة الوطنية المالية"، قبله كان نائب الرئيس السوري السابق رفعت الأسد.

رفعت الأسد، وحتى صدور قرار محكمة الإستئناف" لم يستطع إثبات "بياض" الأموال التي بنى بواسطتها أمبراطورية عقارية في العالم عموماً وفي فرنسا وإسبانيا خصوصاً، فحكمت عليه محكمة البداية بسرقة أموال الشعب السوري، وأنزلت به عقوبتين: السجن أربع سنوات ومصادرة ممتلكاته.
وثمّة أصوات سياسية كثيرة في فرنسا توجّه الى "النيابة العامة الوطنية المالية" تهمة الخضوع لإرادة قصر الإليزيه، إذ تعتبرها "الذراع القضائية للسلطة التنفيذية".

واستناداً إلى هذه "التهمة" التي لا يمكن تبرئة النيابات العامة منها، وبسبب "هرمية الأمرة" من جهة والجهة السلطوية التي تتولّى التعيينات فيها، من جهة أخرى، قد لا يكون مستبعداً أن يقف فريق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وراء قرار فتح التحقيق الأوّلي، بخصوص سلامة.

وكان ماكرون الرئيس الوحيد في العالم الذي هاجم سياسة مصرف لبنان، ووجّه إلى حاكميتها تهمة بناء "هرم بونزي"، وهو نظام مالي احتيالي يقوم على جذب الإستثمار بإغراء كبير في الفائدة التي يتم دفعها من أموال مسثمرين جدد، لكنّه ينهار، بمجرّد أن يتوقف تدفق الإستثمارات.

ووضع شارل بونزي هذا الهرم في بوسطن الأميركية، في العام 1919، فأصبح مليونيراً، في أقل من ستة أشهر، قبل أن يسقط هرمه ويتسبّب بضياع استثمارات وضعها نحو أربعين ألف شخص.

وقد اتبع كثيرون هذا النموذج لاحقاً. من الدول يمكن تسمية ألبانيا. من الشخصيات لا يمكن القفز فوق إثنين هما الروسي سيرغي مافرودي والأميركي برنار مادوف.

وكان لافتاً أنّ سلامة ردّ، في مقابلات مع قنوات عدة في التلفزيون الفرنسي، بالتفصيل على ماكرون، ليدحض "اتهاماته الخطرة" التي تصوّر مصرف لبنان عموماً وسلامة خصوصاً في قائمة تضم أكبر نصّابي العالم.

وثمة من يعتقد بأنّ هذا الرد قد أثار استياء ماكرون الذي بما له من خبرة واسعة في الشؤون المالية والمصرفية، أجرى استطلاعاً معمّقاً لأسباب الكارثة التي ضربت لبنان وحاول، في مبادرته، إخراجه منها، مشدّداً على وجوب إجراء "تدقيق جنائي لحسابات مصرف لبنان".

وحاول سلامة، بكل ما يملك من علاقات، أن يُخفّف من وطأة ردّه "القاسي" على "تحليل ماكرون" بالإشارة الى أنّه، في الواقع، كان يرد على "الطامحين المتربصين به" الذين يقيمون علاقات مباشرة مع ماكرون ومحيطه.

إنّ المرجعيات الفرنسية تنفي أن يكون لرد سلامة على ماكرون أي علاقة بفتح "النيابة العامة الوطنية المالية" تحقيقاً أوّلياً للتدقيق بجدية التهم الموجّهة إليه، وهي تضعها في إطار سياسة فرنسية عامة جرى اعتمادها تجاه لبنان، إذ إنّ السلطة الفرنسية، وفي ضوء "تعطيل المسار السياسي الإنقاذي في لبنان" قررت اتخاذ إجراءات ضد المعرقلين وضد الفاسدين، وفق تصريحات وزير الخارجية جان ايف لودريان.

وفي هذا الإطار، فإنّ المعرقلين معروفون سياسياً، ولكنّ تحديد الفاسدين يحتاج الى مرجعية قضائية.

وهذا يعني أنّ فتح تحقيق أوّلي بخصوص ممتلكات سلامة ليس سوى البداية، إذ إنّ على جميع من يملكون حسابات مصرفية واستثمارات مالية وعقارات في أوروبا عموماً وفرنسا خصوصاً، أن يتحضّروا لإثبات أنّ مصادرهم المالية من "عرق جبينهم" وليس من "جيوب اللبنانيين".