لمّا كتب «ماريو فارغاس يوسا» الحائز على جائزة نوبل عام 2010 كتاباً عن «موت الثقافة» سنة 2015، كان الواقع الثقافي في العالم يعيش تردّياً ملحوظاً نتيجة تحوّلات نمط عيش الناس، وانشغال النّاس بضاغط اليومي الذي سرق منهم آدميتهم، وقذف بهم في دورة مقيتة من الإلهاء الوجودي، فأصبحت الذّات بموجبه يحدّدها الانفعال الميكانيكي بمحاكاة تامة للمنطق الآلي للتّقنية الذّي اعتبر الوجدان مكوّناً هلامياً لا يدلّ على الإنسان المعاصر ولا يعنيه.
حتّى معاني المعرفة في علاقتها بالرّوح نفسها تحوّلت من طقوسيتها الاجتماعية، التّي شكّلت النّواة الرّمزية للإنسان في علاقته بالكتاب والسّينما والمسرح والموسيقى والتّشكيل، إلى طقوسية فردية منغلقة تحكمها أجهزة الحاسوب اللّوحية والثّابتة والهواتف النقّالة.
وإذا كان «ماريو يوسا» قد بنى ملاحظاته انطلاقاً من آثار التحوّل المعرفي والتّكنولوجي على سلوكيات الأفراد وأنماط عيشهم، فإنّه استند نظريّاً إلى مقالة للشّاعر الإنجليزي إليوت حول «مفهوم الثّقافة»، الذّي نبّه إلى أفول الثّقافة والإبداع في القرن العشرين وما ارتبط بهما من ضحالة فكرية وفنّية وإسفاف في المناولة وطرق الموضوعات، ممّا أدّى إلى تدنّي الوعي الجمعي والفردي بضروراتهما وتراخي منزلة «الإنسان الشّامل» في النّقد والتّعبير.
تكمن أهمّية أطروحة «ماريو يوسا» في ربطه التدنّي الثقافي بالتدنّي السياسي والتّنصيص على انزياحهما معاً إلى شعبوية لا تاريخية مسيئة للذوق وللقيم القائمة على الحق والخير والجمال.
وأقلّ ما يقال عن هذه الشّعبوية إنّها وليدة السوق الليبرالية المتوحّشة، التّي جعلت من الثّقافة والسياسة سلعة خاضعة لمنطق الرّبح المادي، وأنّ تحدي التّجويد فيها هو«الدِّيزَايْن» فقط، أو الشّكل المتّصل بالصور المرئية والصوتية المتناسبة مع الطلب الذّي يتحدّد بمنطق السوق لا غير.
يُستفاد من «يوسا» أنّ هذه الخِيّارات المعادية للثقافة المتناغمة مع الرؤية الجديدة للعالم كمّا رسمتها العولمة، تُعدّ انزياحاً زمنياً «بالدلالة النيتشوية»، بحيث يكون فيه الإنسان المعاصر عبارة عن «لا معنى» منقطعاً عن أصوله الثّقافية والرّمزية، مُنمَّطاً في دورة اغترابية طَامِسَة لمضمونه التّاريخي لفائدة الشّكل القابل للاستهلاك، ولن يكون أبداً في هذه الدّورة، إلاّ قطعة غيّار مستبدلة على نحو مستمر.
تحدّدت استراتيجية وَأد الثّقافة بجعل السّياسة مصنعاً لتّشويه المثقّف والمبدع وتبخيس منزلتهما الاجتماعية باعتبارهما غير فاعلين اقتصاديين وغير قادرين على أن يكونا من النّاخبين الكبار الذين لهم سلطة الاستقطاب والتأثير على صنّاع القرار، ومن خلال الآلية الإعلامية ذات الخلفية السيّاسية، التّي تتحكّم فيها الشّركات الرّبحية الكبرى، تمّ الالتفاف على التمثّلات الاجتماعية لجوهر الدلالات الثّقافية والإبداعية بتحويرها واستبدالها بتمثلّات سطحية ومشوّهة، انتصاراً للرّداءة.
التعليقات