الأحادية القطبية استحدثت واقعاً غير قابل للإستدامة من منظور التزاحم الجيواستراتيجي بين الأقطاب الثلاثة، ويعد الانكفاء الأميركي أمنياً (عسكرياً) خلال العقد الأخير من القرن الماضي، معطوفاً عليه جملة سياساتها منذ انطلاق حربها على الإرهاب، ثاني أكبر أخطائها الاستراتيجية. فقد مثلت جملة تلك السياسات محفزاً ومسرعاً لإعادة التقييم الاستراتيجي من قبل الصين والاتحاد الروسي في مواجهة الولايات المتحدة.
الولايات المتحدة فشلت استراتيجياً في استيعاب سرعة انهيار الاتحاد السوفييتي، وكذلك إدراكها كيفية التعاطي مع ذلك الواقع انطلاقا من قناعتها حينها بـ«حتمية» وقوع التفسخ الكلي للجغرافيا الروسية سياسياً. ويستشف من السياسات اللاحقة (من المنظور الاستراتيجي الأميركي)، أنه لم يكن مقبولاً امتداد أوروبا لتشمل روسيا، مفتاح ما يعرف بأوروبا الآسيوية Eurasia. مما أدى إلى إيقاظ الروح الوطنية «قوميا» في الحالة الروسية، تمثلت برؤية الرئيس فلاديمير بوتين. فاعتماد القوة في حرب الشيشان، كانت أولى رسائله السياسية المباشرة للولايات المتحدة والمجتمع الدولي، بأن العمق الاستراتيجي الروسي تحدده موسكو لا سواها.
الولايات المتحدة فشلت في احتواء روسيا سياسياً، وكذلك عرقلت كل احتمالات تطور الاتحاد الأوروبي سياسياً. وبخلاف ما قد يرشح من تمنيات بعد قمة بوتين بايدن الأخيرة، فإن العلاقات الأميركية الروسية لن تعود لواقع ما قبل 2003 (حينما قبل الرئيس جورج بوش الابن بغزو روسيا للشيشان، دون استخدام حق النقض في مجلس الأمن، أو الموافقة على نشر قوات دولية). فقد مثلت تلك الحقبة، العصر الذهبي في العلاقات الأميركية الروسية، بل وكان يُنظر للهجرة الروسية حينها (من المنظور العرقي) على أنها العنصر المنقذ لتضائل العرق الأوروبي الأبيض أميركيا.

بوتين أدرك ضرورة عدم الانقياد إلى حالة من سباق التسلح مع الولايات المتحدة، مع وجوب تطوير روسيا لسياسات وأدوات متماثلة «نسبياً» تحقق الاستنزاف المستدام للولايات المتحدة في مناطق نفوذها التقليدي (الشرق الأوسط/ حوض المتوسط/ أفريقيا)، ومتكافلة استراتيجياً مع خصمها الصاعد الصين (الاطلنطي/ الجرف الباسيفيكي/ المحيط الهندي). أما ضمن الاستراتيجية الوطنية، فإنها ستقرأ أي خطوة أميركية أوروبية باتجاه البلطيق وحوض البحر الأسود، كخطوة عدائية تستوجب الرد المباشر.
وفي مسار موازي، عمدت موسكو لتطوير مفهومها الخاص للحصانة الاستباقية (الضربة الاستباقية Preemptive Strike) غير النووية، عبر قدراتها السيبرانية الأكثر كفاءة بين أقرانها، حيث يعتبر هذا المسرح من العمليات المتماثلة، منخفض الكلفة السياسية مقارنة بالمواجهات المباشرة أو بالوكالة، إلا أنه في طور «تحولEvolve» متجاوزاً مخاطر المواجهات العسكرية، او أحد مُسرعاتها المستقبلية.

دمية الماتريوشكا الروسية المتداخلة، هي الاستراتيجية التي اعتمدتها موسكو في إعادة صياغة هويتها السياسية على أسس استراتيجية، فهي غير متسامحة في ما قد يعتبر مساساً بالكبرياء السياسي، وعنيفة بلا تردد إن لزم ذلك، وذكية في ممارسة استنزاف الخصوم استراتيجياً. المفكر السياسي الأميركي نعوم تشومسكي، حذر من استفزاز روسيا عبر التوغل المفرط للولايات المتحدة باتجاه البلطيق، وكذلك جاء تحذير زبغنيو برجينسكي من أخطار الدفع بالتزاحم الأميركي الصيني إلى نقطة اللاعودة.
ربما أن حالة التوازن المفقود في الشخصية الاعتبارية للولايات المتحدة استراتيجياً، هو ما يجب أن تعكف عليه مراكز البحث الاستراتيجي الأميركية لاستعادة ذلك انطلاقاً من مصادر التهديد المشتركة لعموم دول العالم، فقد يؤسس ذلك لتحول ولو نسبي في نظرة المجتمع الدولي من حالة النزق الذي تعانيه شخصية الولايات المتحدة سياسياً.