عندما تطّلع على لائحة “الحاجات الضرورية” التي وضعها الجيش اللبناني بعهدة الدول العشرين التي جمعتها فرنسا بالاشتراك مع إيطاليا والأمانة العامة للأمم المتحدة، بتقنية “فيزيو كونفرانس”، من أجل توفير المساعدات العاجلة للقوات المسلّحة اللبنانية، تجدها مطابقة لتلك التي يتم توفيرها، عادة، لنازحي الحروب ولضحايا الكوارث الطبيعية.

وتبيّن هذه المطابقة التي استرعت انتباه صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، عمق المأزق الذي تمرّ به المؤسسة العسكرية التي طالما كانت، بالموضوع المالي والخدماتي، “مدلّلة” الجمهورية اللبنانية، الأمر الذي سبق أن تسبّب، في أكثر من محطة إصلاحية عرفتها البلاد، باحتكاكات مع حكومات حاولت “ترشيق” موازنة الدولة.

وما عجزت المحاولات الإصلاحية عن تحقيقه، أنجزته، ولكن “بالضربة القاضية”، الكارثة المالية – الاقتصادية التي تعصف بلبنان، حتى باتت الخزينة العامة غير قادرة على توفير الحد الأدنى الغذائي واللوجستي للضباط والعناصر الذين تتضاعف الموجبات الملقاة على عاتقهم.

وخلافاً للجيوش في أكثر من دولة في “العالم الثالث”، فإنّ الجيش اللبناني لا يتمتّع بقطاعات توفّر له بعض التمويل الذاتي، بل هو مرتبط ارتباطاً كاملاً بالخزينة العامة، فإن انتعشت انتعش، وإن انهارت انهار.

وفي مرحلة الانهيار المالي، في الثمانينات من القرن الماضي، ولم يكن لبنان قد خرج من الحرب بعد، تولّى الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وكان لمّا يزل رجل أعمال لبناني – سعودي، توفير هبة شهرية للجيش بقيمة نصف مليون دولار أميركي، حتى لا ينهار، فيفقد لبنان عموده الفقري، عندما تدق ساعة الحل.

إنّ “مؤتمر باريس” الذي انعقد، أمس بعد طلب من قائد الجيش العماد جوزف عون وموافقة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال اللقاء غير المسبوق بين رئيس فرنسي وقائد للجيش اللبناني، في قصر الإليزيه، إنمّا يهدف الى إحياء تجربة رفيق الحريري، من خلال “المجموعة الدولية لدعم لبنان”.

وعلى الرغم من أهمية هذه التظاهرة الدولية الداعمة للجيش، إلّا أنّ المؤتمر لم يحقق إنجازاً باهراً، إذ غابت المملكة العربية السعودية عنه – وهي كانت في ما مضى أكبر مانح للقوات المسلّحة اللبنانية – وانخفض فيه مستوى تمثيل دول مهمة، واقتصرت التعهّدات على تحريك تعاون ثنائي بين كل دولة مشاركة من جهة وبين قيادة الجيش اللبناني، من جهة أخرى.

وهذا التعاون الثنائي ليس جديداً على الإطلاق، إذ إنّ دولاً عدة، من بينها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ومصر والإمارات العربية المتحدة وتركيا والعراق والمغرب وغيرها، قد سارعت الى توفير مساعدات غذائية ولوجستية عاجلة للجيش، وهي، بمؤتمر مماثل أو من دونه، سوف تواظب على نهجها الإغاثي.

ويبدو واضحاً أنّ منظّمي المؤتمر، ولا سيّما من الجهة الفرنسية، كانوا قد استشرفوا العجز عن تحقيق إنجاز واضح، الأمر الذي ترجمه الغياب الكامل لماكرون، وهو صاحب المبادرة، عن المشهد.

من دون شك، إنّ “مؤتمر باريس” سلّط الضوء على أهمية الجيش اللبناني، من جهة أولى وزخّم وجوب إغاثته دولياً، من جهة أخرى ولكنّه، في المقابل، وإزاء محدودية التقديمات، حيث لا إمكانية لدعم الرواتب المنهارة ولا لتعزيز الترسانة العسكرية المكلفة، وجد نفسه أمام المأزق اللبناني الأساس: انهيار السلطة في لبنان.

وفي وقت كان مؤتمر دعم الجيش يلتئم، كانت قوى السلطة، على اختلافها، تتظاهر في بيروت، سارقة الهمّ المعيشي، في محاولة منها لاستخدام الشارع، في صراعاتها التعطيلية والتدميرية التي شملت كل أوجه الحياة في البلاد، الأمر الذي يقدّم دليلاً إضافياً على انسداد الأفق الإنقاذي أمام لبنان وشعبه وجيشه.

ولعلّ قائد الجيش اللبناني نفسه، في كلمته، أمام المؤتمر قد لفت الى هذه الحقيقة، عندما قال إنّ استمرار تدهور الوضع الاقتصادي والمالي سيؤدي الى انهيار المؤسسات ومن ضمنها المؤسسة العسكرية.

وهذا يعني أنّ إغاثة الجيش، في حال لم يتم وضع حد للتدهور الاقتصادي والمالي، قد تؤجّل الكارثة ولكنّها لن تمنعها، إلّا إذا كانت هذه الإغاثة، مجرد مرحلة في خطة متكاملة قادرة على انتشال لبنان من الجحيم.

وعليه، فإنّ إدراج المساعدات الطارئة، في إطار اتفاقيات ثنائية بين الدول الراغبة بالإغاثة وبين قيادة الجيش، يمكنها أن تأخذ الوضع اللبناني بشموليته، في الاعتبار.

ويفتح ذلك، الباب واسعاً أمام سؤال يطرحه كثيرون في السر: أيّ جيش لأيّ دولة؟

إنّ لبنان، وفق تقديرات دبلوماسية ومخابراتية دولية، يتّجه، في حال بقيت الأمور على ما هي عليه، إلى أن يفرغ من قواه الحيّة، في مختلف القطاعات، ليصبح أرضاً تحتضن فقراء يحكمهم متطرفون.

وهذا “التفريغ” لن يحيّد المؤسسة العسكرية التي بدأت تشهد، ولو كان الخروج منها ليس سهلاً، حالات تخلّف عن الخدمة.

ولن يكون بمقدور أيّ دولة في العالم أن تضع حدّاً لهذا المصير، في ظل المسار التهديمي الذي تنتهجه الطبقة السياسية في لبنان.

وعليه، فإنّ الجيش سيكون أمام تحدّ حقيقي، فهو، في وقت لا يريد ولا يستطيع أن يواجه “حزب الله”، أحد أبرز أسباب الكارثة التي يعيشها لبنان، هل يمكنه أن يلعب أيّ دور بنّاء لانتشال لبنان من واقعه المأساوي، كأن يعيد الثقة الى المجتمع المدني اللبناني بنفسه، بعدما لعب الجيش دوراً أساسياً، سواء بالتدخل القمعي حيناً أو بعدم التدخل ضد القامعين الميليشياويين أحياناً أخرى، في إحباط ما كان يمكن أن يُبنى من إيجابيات على “ثورة 17 أكتوبر”؟

وليس سرّاً أنّ هذه “الثورة” كانت قد أربكت الطبقة السياسية وأخافتها وهذّبتها، ولكن إحباطها الذي قاده “حزب الله” المموّل من إيران ومن نشاطات “إجرامية”، أعاد هذه الطبقة الى وضعية أسوأ وأخطر من تلك التي كانت عليه.

ويسود “حزب الله” في الوقت الراهن على غالبية الطبقة السياسية، إذ إنّ الجميع، بما فيها تلك القوى التي تزعم أنها على خصومة معه، يستجدون دعمه لتمكينهم من تسجيل انتصار على القوى الأخرى التي تتنافس معهم.

وهناك اعتقاد راسخ في أكثر من عاصمة معنية بالشأن اللبناني أنّ “حزب الله” استفاد ويستفيد من “ضعف النفوس” حتى يوجّه ضربة قوية الى أُسس الدولة اللبنانية وخطط نهوضها.

ولا يمكن بدء مسيرة إنهاض لبنان، إلّا إذا أعاد “حزب الله” النظر بأجندته الإيرانية، فهو، وخلافاً لكل التوصيات الدولية، بما فيها تلك الواردة في بيان مؤتمر دعم الجيش، يواصل توريط لبنان في صراعات الإقليم، فيما المطلوب العمل، بشكل فوري، لفصل لبنان عن هذه الصراعات.

ومن يدقّق في الرؤية الدولية الجديدة لبلاد الأرز، يجد أنّ هناك محاولة، وإن أتت متأخّرة، تهدف الى تحجيم الطبقة السياسية الراهنة، بالركون الى عنصرين لبنانيين جوهريين، وهما الجيش اللبناني، من جهة والمجتمع المدني، من جهة أخرى.

ولكن، هذه المعادلة الدولية دونها إشكالية، فتوفير الخبز للجيش لن يحييه، إذا لم ينجح في تضميد جرح الهجرة النازف في المجتمع المدني.

وعلى الرغم من التعلّق العاطفي الوطني بالجيش اللبناني، إلّا أنّه، ومنذ انهيار البلاد وحتى تاريخه، لم تقدّم المؤسسة العسكرية ما يعينها على استقطاب ثقة المجتمع المدني بها.

إنّ “مؤتمر باريس” بـ”نصف النجاح” الذي حقّقه، عليه أن ينتظر “خطوة نوعية” من الجيش نفسه، حتى يتكلّل بنجاح كامل.

إنّ مستقبل لبنان ليتحرّر من عبء “المعادلة الخشبية”، وفق تعبير رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان، عليه أن يبتدع معادلة ذهبية حقيقية: الشعب والجيش والمجتمع الدولي.

وهذه المعادلة، على صعوبتها، تقع على عاتق الجيش اللبناني نفسه، على اعتبار أنّه لا يزال هو الركن…التائه.