أتساءل مستفهمًا ومستنكرًا، وأتعجب محتجًا ومتحسرًا على الحال التى آل إليها وضع بعض الهيئات الخاصة بالثقافة والعلم والبحث العلمى، ومنها المجلس الأعلى للثقافة، الذى ما إن نُشر وقُرئ مقالى الأسبوع الفائت بـ«المصرى اليوم»، وناقشت فيه الآثار السلبية الفادحة لحجب جائزة النيل فى العلوم الاجتماعية، حتى تلقيت كثيرًا من التعقيبات المكتوبة والشفهية المسهبة فى ذكر المثالب والأوضاع غير الصحيحة فيه، ناهيك عما عقّب به من وصلهم المقال عبر صفحات إلكترونية تضم مجموعات من المثقفين والعلماء، ومنهم بعض من كبار العلماء الذين شغلوا مواقع وزارية سابقة، والجميع يقترح- أو يطالب- بمناقشات على أوسع نطاق لتلك الأوضاع غير المقبولة التى لا تخص أطرافها المباشرة بل تنعكس على الأمة كلها.
وفى البداية أؤكد، ما سبق أن كتبته الأسبوع الفائت، أن الأمر يتجاوز الأشخاص، وأضيف أن هذا يسرى على الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة وأعضائه، وهم جميعًا كأشخاص ومتخصصين- كل فى مجاله- لهم الاحترام والتوقير، ولكن تبقى التساؤلات والتعجب، إذ كيف تتم المفاضلة بين شخصين مختلفين فى المسار والمجال، لأن السفير الريدى رجل أفنى عمره فى خدمة الدبلوماسية المصرية وشغل مواقع مرموقة منها مندوب مصر الدائم فى جنيف، وسفير مصر فى واشنطن، وهو صاحب الجهد الرئيسى فى إلغاء ديون مصر للولايات المتحدة بعد حرب الخليج، وعندما ترك الخارجية لم يركن للدعة والراحة، ولم يتخذ معزلًا مخمليًا أو برجًا عاجيًا، بل انخرط تمامًا فى المساهمة فى بناء النهضة المصرية المعاصرة عبر إنشاء المكتبات العامة، لدرجة أن أمثالى وجدوا أوجهًا للشبه فى دوره مع دور آل مديتشى وأميرها لورنزو العظيم، الذى وضع أول لبنة فى النهضة الأوروبية عبر بناء وتعمير المكتبات فى توسكانيا وفلورنسا، ومن شمال إيطاليا انطلقت النهضة لبقية أوروبا.
والدكتور هلال، ومنذ شبابه المبكر، هو المثقف الوطنى النابه، والأكاديمى المتخصص المرموق، وأستاذ الجامعة والعميد الذى ساهم فى تكوين أجيال متوالية من طلاب العلوم السياسية، صار كثير منهم علماء وخبراء وسفراء ووزراء، ولم يضن- هو أيضًا- بوقته وجهده وعلمه، فانخرط فى العمل العام بنزاهة وطهارة لا تنتظران شهادة من أحد، ناهيك عن إنتاجه العلمى الريادى المتميز.. ولذلك اقترحت- ومازلت أقترح- أن تنتقل جوائز العلوم الاجتماعية إلى أكاديمية البحث العلمى، التى تضم مجلسًا للعلوم الاجتماعية مع مجالس علوم الهندسة والطب وغيرهما، وأن تنشأ جائزة تُخصص للخدمة الوطنية العامة المتميزة.
ثم إننى كنت قد قرأت حوارًا نشرته «الأهرام» يوم الأحد 6 يونيو 2021 مع الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، سُئل فيه عن حجب جائزة النيل للعلوم الاجتماعية، فأجاب ومما جاء فى إجابته بالحرف: «.. نظرًا لأن المرشحين لنيل الجائزة لهما قيمة مؤثرة، وهما الدكتور على الدين هلال والسفير عبدالرؤوف الريدى، لذا وقع أعضاء اللجنة فى حيرة بالغة بينهما، ووفقًا للقانون: إذا كانت نسب الأصوات متقاربة لا يُمنح أى مرشح منهما الجائزة، لأنه لابد أن يكون فارق الأصوات كبيرًا، لذا تم حجب الجائزة».
وبعد نشر مقالى اكتشفت أننى شاركت فى خطيئة تضليل القارئ، لأننى لم أمحص ما قيل على لسان القانون!، ووجدت من يرسل لى عدد «الوقائع المصرية»، الجريدة الرسمية التى تنشر نصوص القوانين، وذُهلت لأن الوقائع فى العدد 76 (تابع) فى أول إبريل سنة 2021 صفحة 15، فيها المادة 46، ومما تنص عليه فى البند (د): «يجرى بعد ذلك التصويت مرة أخيرة، ويفوز بالجائزة من يحصل على أغلب أصوات الأعضاء الحاضرين»، وأنا أعلم أن النتيجة كانت 12 إلى 11، ثم فى رقم 3 من المادة نفسها نجد: «لا يجوز التغيير فى القواعد المنصوص عليها فيما تقدم أو تعديلها فى أثناء اجتماع التصويت على منح الجوائز»!.
وأسأل أمين المجلس الأعلى للثقافة، أستاذ المكتبات، الذى تحفل سيرته الذاتية بالوظائف والمواقع والمهام واللجان التى تولاها، وهو ما يحق له أن يفخر به وتفخر به المحروسة، التى لاشك أنها أنجبت غيره ممن تفخر بهم ويغنونها عن أن يجمع شخص واحد بين أنه أستاذ جامعة ومشرف على رسائل جامعية ويرأس هيئة عامة، ثم يُندب معها لرئاسة المجلس، ثم يترك الهيئة ويبقى فى المجلس، أسأله عن نص القانون ولِمَ لَمْ يُعمِله، ولِمَ تم تغيير ترتيب الأسماء على غير ما كتبته لجنة اختيار القائمة القصيرة أو المحدودة؟ وأسأله عن كيف لجهة إدارية أن تتدخل لتلغى نتيجة توصل إليها أعضاء المجلس؟ ومن المسؤول عن إشاعة مناخ انعدام الشفافية وتقلص الثقة و«بهدلة» أسماء لشيوخ خدموا مصر وتفانوا فى مهمتهم، ولا أريد أن أتوغل فى ملامح تلك «البهدلة»، ويكفى اختلاق جو من «البغضاء» بين جنبات المشهد الثقافى الاحتفالى، الذى بدلًا من أن يكون مبهجًا مهيبًا صار مكئبًا ومهترئًا!
إننى أتعجب تعجب الحسرة على الثقافة وأهلها، لأننى تأكدت من أن هذا الاهتراء هو السبب الرئيسى فى الفجوة التى لم تردم بين متخذ القرار فى الوطن وبين المثقفين، لأن ما يدور فى أوساط هيئاتهم لابد وأنه يصل إلى أعلى مستوى فلا يجد الوقت الذى يبدده مع «فاقد الشىء» لأنه «لن يعطيه»!
أناشد الرمزين الوطنيين المرموقين، السفير الريدى والأستاذ الدكتور على الدين هلال، ألا يندما على قبول الترشح للجائزة، وألا تتسرب المرارة لحلقيهما لحظة واحدة، حيث ثبت أن مصر عرفت وتعرف من أبنائها من هم فوق الجوائز.
التعليقات