اندلعت، الأسبوع الماضي وهذا الأسبوع، في أنحاء العراق سلسلة جديدة من الحرائق استهدفت في معظمها القطاع الاقتصادي واتهم كالعادة الطقس والتماس الكهربائي وداعش بحدوثها.
اندلع حريق في مخازن تجارية بمنطقة حي جميلة الصناعية شرقي بغداد، وحريق آخر في دار الأطباء بمستشفى الزهراء التعليمي في محافظة واسط، وآخر التهمَ مجمّعا لتجارة المواد الغذائية في منطقة المفرق غربي بعقوبة، ورابع في مختبر التحليلات بطوارئ مستشفى الحسين التعليمي في السماوة، وخامس كبير في محافظة النجف بإحدى البنايات في مركز المحافظة، والتهم آخر معملا للقار في محافظة أربيل على طريق أربيل – مخمور في قرية تيمار، ولم يسفر عن خسائر في الأرواح باستثناء أضرار مادية.
يستمر مسلسل الحرائق بالتهام الكثير من الأراضي الزراعية في العديد من المحافظات العراقية مثل ديالى وكركوك وصلاح الدين، تأتي دائما على كمّيات كبيرة من محاصيل الحبوب الاستراتيجية، وتعزو الجهات الحكومية كعادتها الأسباب إلى درجة حرارة الطقس المرتفعة أو انطلاق شرارة من عوادم السيارات أو إلقاء أعقاب السجائر من السيارات على الطريق، وصولا إلى اتهام تنظيم داعش بإشعال الحرائق في العراق، بينما عزا آخرون اندلاع حرائق بعض المحاصيل إلى جهات تأتمر بأوامر من الخارج. كما أن أهم المشكلات الكبرى هي ارتفاع درجات الحرارة عن المعدل الطبيعي وكبر حجم الأراضي المزروعة بالمحاصيل وانتشارها من دون فواصل، ومعروفة قابلية الأراضي المزروعة بالقمح والشعير للاحتراق وسرعة انتشار اللهب.
لا يستبعد عميد كلية الإعلام الأسبق في جامعة بغداد عبدالرزاق الدليمي أن تكون الحرائق إحدى الأدوات التي تستخدمها الأطراف الخارجية لممارسة الإرهاب العسكري والسياسي والاقتصادي لتحرق تلك الأطراف وأدواتها علنا المحاصيل، وبخاصة القمح والشعير، بعد تيقّنها من رغبة أغلب المواطنين واندفاعهم لتسليم هذه المحاصيل إلى الحكومة، فيما وجه بعضهم أصابع الاتهام إلى أيادٍ خفية افتعلت بعض الحرائق بقصد الأذى وحرمان الفلاح من جني هذا المحصول الذي يعدّ استراتيجيا في الأمن الغذائي لأي بلد.
ليس بعيدا أبدا أن تكون هذه الحرائق وجها من أوجه الجريمة المنظمة وهي تستهدف الأمن الغذائي العراقي وعدم الرغبة في تحقيق الاكتفاء الذاتي، فالعراق يتعرض منذ الاحتلال إلى سلسلة من جرائم التخريب والتدمير المقصود، وقد أعلن أن أحدهم قاد منذ وقت قريب زمرة من الأشقياء المسلحين لمهاجمة معمل الحديد والصلب في البصرة، وتبيّن أنه مدير عام سابق فصل من وظيفته بسبب تورطه في الفساد والرشوة، ومرّ الاعتداء مرور الكرام بلا حساب ولا عتاب ولا عقاب.. فمن يجرؤ على الوقوف بوجه ميليشيات الجريمة!
مزارع وحقول زراعية تتعرض للإحراق المتعمّد والإتلاف لكميات كبيرة من الحقول التي يمكن أن تسهم في توفير الغذاء للشعب العراقي، فتتصاعد ألسنة اللهب وتتقاعس عمليات الإطفاء.. ولا أحد يُحاسب ولا مجرما يدان، بل تسجّل كلها ضد مجهول!
حرائق تلتهم أبنية حكومية ومستشفيات ومخازن ومعامل حكومية وقطاع خاص، ولا أحد يجرؤ على أن يقدّم مذنبا إلى القضاء.
مسلسل الحرائق ليس جديدا في عراق ما بعد 2003 ولن يتوقف، لإتلاف مستندات أدلة الفساد، بل إن الحرائق شملت مخازن حفظ الأوراق الانتخابية البرلمانية سنة 2018 لمقاصد لا تخفى على كل لبيب، كما يرصد الناشط السياسي والمسؤول الأسبق في وزارة الداخلية العراقية الدكتور أكرم عبدالرزاق المشهداني.
العراقيون يطالبون بفتح ملفات جميع الحرائق التي طالت منشآت ومخازن ومستودعات حكومية وصناعية وزراعية وتسببت في خسائر بالمليارات لكنها بقيت طي المجهول، إذ لا أحد يجرؤ على أن يقدم فاعلا إلى ساحة القضاء.
لن ينتهي هذا المسلسل التخريبي التدميري طالما هناك فاسدون منتفعون وما دامت هناك ميليشيات مسلحة تفتك بكل من يحاول أن يفتح ملفات الفساد.
طبقا للتحليلات والتقديرات، فإن ما جرى ويجري ينطوي على الآتي:
إن سلسلة الحرائق تمثل امتدادا لمشروع التدمير الاقتصادي لمقومات الحياة كلها في العراق.
تأتي هذه الحرائق ضمن إطار استمرار خلق الفوضى والقلق الاجتماعي لدى عموم المجتمع، كذلك لغرض بث الرعب والخوف لدى الشارع العراقي.
ذلك كلّه يصب في خلق الجو الذي تريده القوى السياسية لمرحلة ما قبل الانتخابات لتحقيق أهدافها في حالة إجراء الانتخابات المقبلة وفقا لحساباتها، كما يرى الأكاديمي الدكتور ماجد الخطيب.
هناك من يرى أن تخريبا خارجيا متعمّدا يجري في العراق ينفذه ذيول دول مستفيدة من عرقلة تقدم العراق أو انتعاش اقتصاده، لكي لا يستعيد البلد مكانته التي استحوذت عليها تلك الدول في المجالات كافة وهناك وثائق وأدلة على ذلك يمتلكها أصحاب هذا الرأي.
خلاصة القول، إن الحرائق المتعمدة صنو التخريب وتوأم الإرهاب، وهي من أدوات ميليشيات الولاية واستراتيجية عملها اليومي، وهي لن تتوقف ما دام البلد تحت سلطة الحشد ومباركة المرجعية الطائفية.
إن ما يحدث على ضفاف الرافدين وبهذه الطريقة الفاضحة، يعبّر بوضوح عن حقيقة الدولة الفاسدة التي غاب عنها القانون وتخلى فيها القضاء عن مهمته لصالح حشد الأجنحة الدموية.
إن هذه الحرائق المتوالية تضيف إلى مهمة الحراك الوطني مسؤولية أخرى في كشف أضاليل السلطة وتستّرها على جرائم الاغتيالات والحرائق والتغييب القسري للنشطاء من شباب الوطن.
حكومة مصطفى الكاظمي تغمض عينيها استنادا إلى سياستها مع “الحشد المقدس”، تلك السياسة القائمة على قاعدة مقايضة مبتذلة تحت شعار “شيلني وأشيلك”، كما يعبّر عنها العراقيون، وهي تعني غض عنّي بصرك وأغض عنك بصري، وما بينهما حرق العراق.
التعليقات