لئن كانت الثورة الإيرانية تمثل قصة نجاح لرجال الدين والبنيات التقليدية في المجتمع الإيراني التي تجاهلها الشاه رضى بهلوي طويلاً، من خلال نمط عيشه الغربي، فإنها بالقدر نفسه تمثل درساً بليغاً لعدد من أنظمة الحكم المختلفة حول أسباب انهيار نظام الشاه الذي كان يعتبر من أقوى الأنظمة السياسية والعسكرية في المنطقة. لقد مثّل إسقاط حكومة محمد مصدق في 19 أغسطس/غشت 1953 توقيفاً قسرياً لتحول إيران لنظام ديموقراطي حقيقي، وفي مقابل ذلك، وبدعم غربي استثنائي، كرّس الشاه بنية سلطوية عتيقة متأثرة بالتراث الفارسي القديم وأمجاده الإمبراطورية، مع مظاهر تحديث خادعة كانت في الحقيقة تمثل وجهاً من وجوه الاغتراب التي كان يعيشها نظام الشاه والنخبة المتحلقة حوله وحول موائد الثروة، وما تقتضيه من بنية تؤطر الفساد الذي استشرى في بنية الحكم، وليس غريباً أن الشاه بقي في النهاية وحيداً؛ بل وغير قادر على استيعاب تسارع حوادث الثورة التي شارك فيها الشيوعيون والقوميون والليبراليون، إضافة إلى "دراويش" الحوزات الدينية في قُمْ. لفهم ذلك، يحسن بنا أن نعيد قراءة ما كتبه عالم الاجتماع الإيراني وخبير اليونيسكو الشهير إحسان نراغي في كتابه/الشهادة، "من بلاط الشاه إلى سجون الثورة" الذي يعتبر في جزئه الأول توثيقا للقاءات الكاتب مع شاه إيران في الشهور الأخيرة قبل سقوط نظامه، إذ يجيب نراغي بصراحة مدهشة عن سؤال الشاه: "ماذا يجري يا نراغي في إيران؟ وكيف أن أحداً من المسؤولين حولي لم ينبهني إلى هذا السيل المتدفق من الغضب والإحباط والرفض لي ولنظامي في الشارع؟ بلا شك أن هذه الأزمة ليست ابنة البارحة؟"، يقول نراغي في جوابه العميق، إن ذلك راجع للطبيعة الهرمية لنظام الحكم، فرئيس الوزراء لا يهتم إلا بما يأتيه من الأعلى، ولا أحد يشعر بأنه مسؤول على الصعيد السياسي، لأن كل القرارات المهمة تصدر عن الشاه، وبما أن الشاه انفرد بتحديد الأهداف، فإن النخبة اعتبرت أن دورها ينحصر في تزويده بالمعلومات التي تتفق مع خطه السياسي. هذه النخبة استعملت ذكاءها وعلمها لتتبع الشاه، أو بعبارة أخرى يقول نراغي، لكي تمنع عن الشاه رؤية الحقيقة.

منذ الثورة التي اختطفها الخميني من منفاه الباريسي وأدت إلى سقوط نظام الشاه رضى بهلوي، وإيران تعيش تجربة دينية شمولية في الحكم بشكل لا يمكن مقارنته بأي نظام سياسي آخر، بحيث شكل النظام الجديد نقيضاً كلياً للنظام الذي كان سائداً في عهد الشاه، هنا يجب التمييز بين الثورة الإيرانية التي كان لها القدرة على كسب إجماع الشعب الإيراني وتطابق تشخيص كل التيارات السياسية لحالة البلاد عشية الثورة، من أقصى الحزب الشيوعي الإيراني "تودة" إلى رجال الدين في الحوزات الدينية في قم، مروراً برجال بازار طهران وطلاب الجامعات والباحثين الأكاديميين المستقلين وبعض الشخصيات الليبرالية، حيث كان الجميع متذمراً من ممارسات عائلة الشاه والفساد الذي أصبح معطى هيكلياً في البلد، وبين النظام الذي نتج منها ويستمر إلى اليوم في حكم إيراني.

الاستهتار برجال الدين لم يكن خاصية لدى الشاه فقط، بل كانت أيضاً خاصية الشيوعيين والليبراليين ممن كانوا يعتقدون أن رجال الدين سيعودون بعد إسقاط الشاه إلى الحوزات الدينية، بينما ينفردون هم بالسلطة، لكن الذي حدث كان عكس ذلك تماماً، إذ قام رجال الدين بتصفية جميع حلفائهم زمن الثورة، مستفيدين من تخوف الولايات المتحدة الأميركية من هيمنة الشيوعيين على إيران وضعف قدرة المخابرات الأميركية على توقع المخاطر الجيواستراتيجية لصعود نظام ولاية الفقيه في المنطقة، حيث أقام الخميني نظاماً أتوقراطياً شاملاً بقيادته بوصفه خليفة للإمام الغائب، وتم تسليط تهمة التآمر على الثورة على كل خطاب معارض لتسهل تصفيته، كما ساعدت الفوارق الكبيرة التي كان يعرفها الجيش، في استقطاب النظام الجديد لأجزاء واسعة من القوات المسلحة مدفوعة بطموح تحسين أوضاعها المادية والانتقام من نخبة الجيش التي كانت تستفيد من بنية نظام الشاه، باختصار كان الخميني ورفاقه، تلك المجموعة التي لم يضرب لها حساب، سواء في الداخل أو الخارج، لكنها أثبتت أنها الأكثر قدرة على استثمار تناقضات النظام والتيارات السياسية والمجتمع الإيراني في لحظة انتقال مصيرية وتاريخية.

سنة 2009 اعتقد العالم أن الثورة الإيرانية أكملت دورتها، وأن الشعب الإيراني أخيراً نفض عنه حكماً دينياً شمولياً لم يكن أقل سوءاً من نظام الشاه، خاصة على مستوى الحريات والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.
كانت هناك شعارات إصلاحية وشارك في التظاهرات إصلاحيون من داخل النظام، غير أن التجربة أثبتت أن ما يسمى بالإصلاحيين ما هم في الحقيقة سوى الوجه الآخر للنظام، وأن صيغة ثنائية الإصلاحيين والمحافظين، ليست في الواقع سوى توزيع أدوار داخل بنية النظام القائمة نفسها منذ انهيار نظام الشاه.

تبخرت الثورة الخضراء، وأكد النظام في طهران أنه ما زالت له القدرة على ضبط الشارع، وبصفة أساسية القدرة على "حماية" الثورة.. لكنها كانت فقط جولة، وتبقى كل الشروط متوفرة لكي تتم المحاولة من جديد، خاصة أمام وضعية اقتصادية أنهكها اقتصاد الحرب، واستمرار وهم تصدير الثورة، إضافة إلى العقوبات الدولية التي لم تنقطع.

يوم الجمعة 9 تموز/ يوليو 2021 ينطلق المؤتمر السنوي للمعارضة الإيرانية بباريس، بمطالب وشعارات واضحة تستهدف إسقاط النظام السياسي الذي لا يختلف في بنيته الشمولية عن بنية نظام الشاه ولتعذر إصلاحه، قوة المعارضة الإيرانية هي أنها تمثل خطاً وطنياً معارضاً منذ إسقاط حكومة مصدق بداية الخمسينات من القرن الماضي بتواطؤ بين واشنطن ولندن والشاه، كما أنها كانت طرفاً أساسياً في الثورة التي أسقطت الشاه، فهل تساهم هذه المشروعية التاريخية في فتح الأمل أمام ربيع فارسي؟ أم فقط أزمة عابرة لكنها جرس إنذار لثورة قادمة خاصة مع تنصيب رئيسي رئيساً للدولة، وكأن النظام الحاكم في إيران يظهر أسوأ ما فيه كفصل أخير لمقاومة الانهيار؟