هل توجد ثقافة نقية لم يداخلها أي شيء من ثقافات أخرى؟ كي نوضح السؤال يمكن تعريف الثقافة في هذا السياق، بأنها المعرفة التراكمية التي تحققت في مجتمع، والعادات، والتقاليد، والفنون، ومجموع الأنظمة التي تحكم سلوك الإنسان في أي مجتمع. وبناء على هذا التعريف الموجز من الممكن أن نسأل: هل توجد ثقافة بريطانية محضة يأخذ بها كل من يحمل الجنسية البريطانية؟ وهل توجد ثقافة إيطالية خالصة؟ وهل توجد ثقافة فرنسية نقية؟ أم أن المكونات الاجتماعية تتمايز فيما بينها، حسب الإقليم، والعرق، والدين، وهكذا السؤال ينطبق على العرب، وغيرهم.
علماء العلوم الاجتماعية مثل علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الأنثروبولوجي يهتمون بدراسة ثقافات المجتمعات، لذا جهودهم تنصب على الدراسات التحليلية المتعمقة التي من الممكن وصفها بالتشريحية للسلوك المشاهد من خلال الملاحظة المتكررة والمستمرة، ومن خلال قراءة النصوص الشعرية والنثرية بهدف اكتشاف ما يمكن الخروج به من دلالات قيمية، وعادات وتقاليد تشبه ما يمكن تسميته بالقوانين السلوكية التي تحكم سلوك الإنسان، وتوجهه هذه الوجهة، أو تلك، ولذا عني المستشرقون الذين جابوا العالم العربي، وعاشوا مع أهله إقامة وترحالا، بتدوين تفاصيل ما يرونه ويسمعونه بهدف الخروج باستنتاجات تمثل المشتركات بين أبناء منطقة أو عشيرة يتميزون بها عن أبناء قبيلة أو منطقة أخرى.
إن المسلمات الكبرى بشأن الثقافة أن هناك ثقافة عامة تصبغ عموم المجتمع بمفاهيمها، ودلالاتها، والآثار المترتبة عليها، إلا أن هذا لا يعني على الإطلاق عدم وجود التمايز والاختلاف في بعض الجوانب، فبريطانيا - على سبيل المثال لا الحصر - تختلف أقاليمها عن بعض ثقافيا، فإيرلندا، واسكتلندا، وإنجلترا تختلف عن بعضها في بعض مكوناتها الثقافية، فطريقة نطق بعض الكلمات، والرموز السياسية الخاصة بكل إقليم تختلف كذلك، وهذا يتضح على خصائص الشخصية من حيث الانفتاح على الآخر، أو الانغلاق.
في عالمنا العربي يمكن القول بوجود ثقافة عامة تشترك فيها جميع المكونات الاجتماعية، إلا أن هذا ليس على إطلاقه، إذ توجد ثقافات فرعية ناجمة عن الخلفية الدينية، والمذهبية، أو العرقية، أو المناطقية، فالأمازيغ في المغرب العربي، والأكراد في المشرق العربي مع اشتراكهم في كثير من الأشياء مع أغلب شعوب المنطقة، إلا أن اللغة، واللباس، وربما الطعام فيها ما تتميز به هذه الفئات العرقية عن عموم المجتمع.
العلاقة بين الثقافة العامة، والثقافة الفرعية مثلها مثل الشجرة، والغصون المرتبطة بها، فالغصن يأخذ لون الشجرة، ويستقي طعامه من خلال أنسجتها، إلا أنه مع ذلك قد يشذ في اتجاه نموه، وحجمه، إذ ليس بالضرورة أن يأخذ حجم الأغصان الأخرى، ولا اتجاهها.
الانتماءات المهنية توجد ثقافات تميز كل مهنة عن غيرها من المهن، فالمعلمون لهم ثقافتهم النوعية، وكذا من يعملون في الورش، وغيرهم، هذا التنوع في الثقافات ليس مشكلة في حد ذاته، إلا أنه يتحول إلى مشكلة مدمرة عندما يسعى منسوبو كل ثقافة إلى إعلاء ثقافتهم لتعلو، وتطغى على الثقافة الأم، وهذا في الأغلب يظهر في الجماعات العرقية، حيث الاعتزاز بالثقافة الفرعية يصل إلى حد المطالبة بالانفصال عن الوطن الأم، ما يجعل مثل هذه الحالة ليست اعتزازا، بل انفصالا، وتمردا، وهذا من شأنه دخول المجتمع في دوامة الاختلاف، والتنازع، وربما العنف.
الثقافات الفرعية في أي مجتمع تجد من يستغلها، ويتاجر بها لمصالح شخصية لمتنفذ، وذي شأن في الفئة التي تأخذ بالثقافة الفرعية ليستمر نفوذه، وتدفق المصالح عليه، ولذا نجده يتبنى تعزيز الثقافة الفرعية، ويدافع عنها، ليس بالضرورة حبا بها، لكن لما تحققه من مكاسب، كما أن الثقافة الفرعية تجد من يتبناها من خارج الحدود، وغالبا ما تكون دولة لها علاقة بالثقافة الفرعية، أو يحقق التدخل لها مكاسب مادية، وثقافية، وسياسية وكم دون التاريخ، ولا يزال يدون تبني دولة من الدول مطالب انفصالية لفئة اجتماعية في مجتمع له ثقافة عامة يستظل بها الجميع، وما النزاعات العرقية، والمذهبية التي يشهدها بعض المجتمعات إلا نتيجة التبني، بل التحريض، والدعم على نبذ الثقافة العامة، والخروج عليها.
إن أمان واطمئنان المجتمعات لا يتأتى إلا بإدراك أن الثقافة الأم هي الخيمة التي يلتقي فيها الجميع، وتذوب داخلها الفروق، وبهذا الشعور يجد الجميع ذواتهم ومكانتهم.