للنجمات أعمار افتراضية، أقصر بالضرورة من الرجال، وهذا ما يتغير ببطء مؤخراً. الاستثناءات، أي من بقين بأعمار مديدة على الشاشات، لاحقهن الهمس والجهر، بوصمة المرأة المتصابية. الفنانة المحتجبة نموذج عالمي، ومكرر عبر الحدود. كان هذا اختراعاً هوليوودياً قبل الجميع، النجمة المتقاعدة بإرادتها، المحتجبة وراء نظارة شمسية تغطي نصف الوجه وقبعة مائلة إلى الأمام لتمديد ظل الاختفاء، النجمة الزاهدة في الأضواء، بغية الاحتفاظ بالصورة النضرة الأولى، كنوع من الخلود، كتأبيد للجمال المطلق الذي بلا شائبة، إنكار لعمل الزمن وأثر الشيخوخة. هذا الاحتجاب يظل ضرباً من النجومية، أن تكون بعيدة المنال ومتعالية، كنهاية مناسبة واستمرار لتاريخ من الشهرة.
تتشابه أنظمة تصنيع النجوم وآليات أفولها، وإن ظلت بينها اختلافات غير جوهرية، في معظمها تتعلق بالسياقات. منذ مطلع الثمانينات المصرية، تنامت نسخ محلية من ظاهرة النجمات المحتجبات، أحياناً بغية الاحتفاظ بالماضي النضر حياً بلا شوائب الواقع، وأحياناً أخرى، وعلى العكس، اعتراف بحركة الزمن والقبول بأدوار جديدة تلائم وقاره المفروض اجتماعياً. كانت هناك نماذج للنجمة التائبة، والنجمة الداعية، والنجمة المنسية، والنجمة المتوارية عمداً. ولا تبدو تلك ظاهرة محلية بأي شكل من الأشكال. يخبرنا الفرنسي إدغار موران، في كتابه الأشهر "نجوم السينما"، بأن ميثولوجيا النجوم تتموضع في منطقة مختلطة ومرتبكة، بين الإيمان والترفيه. وقد قدمت هوليوود مدى واسعاً من نماذج التوبة والروحانية والاعتكاف والتواري والندم والتكفير، من نجمات ونجوم البوذية والكبالاه، إلى السينتولوجيا والكاثوليكية، وفي أحيان أقل الإسلام. الفارق البيّن، هو ارتباط التوبة لدينا، بالنجمات، بالطبع لدينا نجوم تائبون، لكن هؤلاء يظلون الاستثناء.
حدث ذلك في ذروة الصحوة الإسلامية. لكن، وبنهاية التسعينات، ومع تمكن مدّها، لم تعد التوبة ملازمة للاحتجاب بالضرورة، ولا مرتبطة بالعمر، ولا حتى بالنجومية. كانت توبة أنصاف النجمات، في مجالٍ توقف عن إنتاج النجمات الكاملات لوقت ليس بالقليل، تعني أحياناً الزواج أو النقاب ونبذ الفن، أو العمل في الدعوة مع الاستمرار في التمثيل بالحجاب أو من دونه في سينما أصبحت نظيفة جداً بالفعل.
تنقلت حلا شيحة بين تلك الأدوار والمراحل والمحطات، من الزواج ونبذ الفن، إلى النقاب، فخلعه، فالعودة إلى التمثيل بالحجاب، فخلعه والتمثيل من دونه، فالزواج مرة أخرى مع الحجاب. كان لهذا أن يكون شأناً شخصياً لا يعني أحداً غيرها، لولا أن شيحة نفسها كانت تذهب بتلك الأخبار إلى وسائل الإعلام، بشكل مباشر أو ضمني. وفي الواقعة الأخيرة، المتعلقة بالخلاف حول مَشاهدها مع تامر حسني في فيلم "مش أنا"، بدأ الأمر بمخاطبة شيحة لزميلها بمنشور علني عبر فايسبوك، قبل أن يصل الأمر إلى الصحف فالتلفزيون، ثم إصدار بيانات من نقابة المهن التمثيلية، فالتلفزيون مرة أخرى، فالإنستغرام. المعضلة التي تواجهها شيحة هي الخلود الذي تمنحه الصورة، الخلود الذي يُنقص من توبتها، فتبقى من دون تتميم، طالما أن أثر الذنب في الشاشات لا يُمحى.
الوالد، الفنان التشكيلي أحمد شيحة، يخرج على الملأ ليقول أن ابنته "مخطوفة" مجازاً. أما النقابة فتصفها بالتذبذب، قبل أن تطلق اتهاماً سياسياً ضدها، بترويج "الأفكار الظلامية". تبدو نصف النجمة، في نظر هؤلاء، ضحية اضطراب ما، وواقعة تحت تأثير من غرر بها. تكتمل الدراما العائلية والمهنية بخروج حلا للرد على والدها، ردٌّ فيه بعض الحدة. ولاحقاً، تلطف ذلك الرد بصورة قديمة لها مع الوالد، تعرضها للجمهور في السوشيال ميديا، فتمتزج هنا هشاشة النجمة، أي الاضطراب المحبب هذه الأيام في عالم الشهرة، مع حبكة تليق بعقدة إليكترا يتم فكها سريعاً بالعودة إلى نموذج الإبنة البارة. النجمة هكذا مألوفة وجزء من العائلة، وسيط بين الشهرة والعالم الأرضي، بين الشاشة والجمهور في المنازل.
يوجه الزوج، الداعية التلفزيوني، معز مسعود، رسالة إلى شيحة عبر انستغرام، تستهدف المشاهدين بالطبع. لا تحمل الرسالة أياً من الإشارات الدينية المتوقعة، بل رومانسية ركيكة مخلوطة بشعارات عن الشجاعة والتلقائية، بمفردات أقرب إلى قاموس التنمية البشرية. وبعد "رحلة البحث عن الحق والخير والجمال"، يتحول مسعود إلى الرد على اتهامات النقابة ضد زوجته، باقتباس سياسي. يقتبس الداعية نفسه، من كلمة ألقاها في الحوار الوطني العام 2011، واصفاً نوعاً من الفن المغترب عن هويته، بـ"الانتحار الثقافي"، ومن ثم يبدأ في سرد قصير لنجاحاته الفنية، ووصول فيلمه "اشتباك" إلى افتتاح مهرجان "كان"، والوصول المرتقب لفيلمه التالي، الذي لم يسمِّه، إلى مهرجان فينيسيا. الرسالة التي بدأت بـ"إلى زوجتي العزيزة"، تتحول إلى بيان سياسي، مطعّم بسيرة ذاتية للنجاح، ونموذج مخملي للسعادة الزوجية والنمو الذاتي ورحلات التحقق الروحية، وينتهي بمانفيستو مختصر لصالح نوع من الفن بعينه. وسط هذا كله، يبدو مسعود واعياً بجوهر القضية كلها، النجومية: "المشهور رحلته تكون دائماً تحت المجهر"، وإن لم تكن، فيجب وضعها هناك.
ماكينة النجومية، نهمة للفضائح الصغيرة والنمائم والمليودرامات المفتعلة وفبركة الأحلام، لخدمة جمهور تحوله إلى حشد من البصاصين الدائمين، الأخبار من ذلك النوع ليست منتوجات ثانوية، بل هي وقود لنظام ترويج الشهرة. هكذا هي الحياة الخاصة للنجوم، زيجاتهم وإيمانهم وتوبتهم، رأسمال، يحظى دائماً بفاعلية تجارية. النجم في هذا النظام سلعة كلية، كذات وكموضوع، مادة الدعاية وللدعاية.
التعليقات