نتحدث أو لا نتحدث؟ هذا هو التساؤل الأكبر أمام إدارة جو بايدن في واشنطن فيما يخص المفاوضات «المجمدة» مع إيران حول ما يطلق عليه «طموحاتها النووية». في بادئ الأمر، بدا بايدن حريصاً على دفع العملية قدماً بحيث يتمكن من إحياء ما لا يزال رئيسه الأسبق باراك أوباما يقدمه باعتباره أعظم إنجازاته على صعيد السياسة الخارجية، وبالتالي يخفف من حدة الخناق الذي أحكمه دونالد ترمب حول رقاب الملالي في طهران.
ومع ذلك، في الطريق إلى المنتدى حدث أمران.
أولهما أن ما يطلق عليهم «المعتدلون» داخل طهران الذين دائماً ما يتحدثون على نحو يشبه الأعضاء في الأطراف الهامشية داخل الحزب الديمقراطي الأميركي، جرى طردهم بعيداً عن طاولة السلطة داخل «الجمهورية الإسلامية»، وحل محلهم حاشية تقول إنها ترغب في تحويل البيت الأبيض إلى حسينية بمجرد نجاح الحركة الخمينية العالمية من فرض سيطرتها على الولايات المتحدة.
أما الأمر الثاني، فتمثل في الإعلان الصادم من جانب مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) عن مخطط لاختطاف مسيح علي نجاد، وهي مواطنة أميركية وناشطة في مجال حقوق الإنسان في إيران، ونقلها من نيويورك إلى طهران عبر فنزويلا. ويبدو هذا أمراً مثيراً للانزعاج، خاصة أن علي نجاد، التي تحظى بعدد ضخم من المتابعين في الفضاء السايبري، تعمل لدى إذاعة «صوت أميركا»، التي تعد كياناً يتبع الحكومة الأميركية. وقد زاد ذلك من صعوبة إقدام بايدن على فتح قنوات النقد أمام طهران.
إذن، هل نتحدث أم لا نتحدث؟
تتمثل الإجابة في الكلمة اليابانية «مو»، وتعني «اسحب سؤالك» أو «أعد طرح سؤالك» على نحو يتجاوز إجابة بسيطة لا تتجاوز نعم أو لا.
والآن، فإن إعادة طرح السؤال على النحو الياباني يمنحنا ذلك: من ينبغي الحديث إليه وعن ماذا؟
الحقيقة أن شخصاً يعتنق أفكار تيار الوسط ويتسم بقدر من الغرور مثل أوباما فقط هو من ربما يعتقد أنه ما دام الحديث مستمراً فإنه ما من أهمية لمن يتحدث وحول ماذا.
أما الإجابة عن الأسئلة التي أعدنا طرحها فلا يمكن سوى أن تأتي بالإيجاب. وعليه، فإنه يجب على الرئيس بايدن البدء في التعرف على من سيتحدث إليه: دُمى يجري تحريكها من خلف الستار داخل «الجمهورية الإسلامية» أم محرك الدمى شخصياً.
أما الخطوة التالية والأهم فهي أنه ينبغي لبايدن تحديد ما الذي سيتحدث بشأنه. وكثيراً ما أكدنا أن ما يطلق عليه «القضية النووية» لطالما كانت مجرد أداة لتشتيت الانتباه باتجاه شبح خيالي بينما الوحش الحقيقي يستمر في التجول في الأرجاء ممسكاً بخنجر تسيل منه الدماء ومسبباً لحالة من الفوضى والدمار. ويجري استخدام الأسلوب نفسه من جانب السحرة في السيرك، ذلك أنهم يعمدون إلى لفت الأنظار إلى يد بعينها بينما تسحب اليد الثانية الأرنب من القبعة.
لقد زأر أوباما مزهواً بانتصاره لأنه من المفترض أنه أقنع الملالي بالتوقف عن تخصيب اليورانيوم لما هو أكثر من 5 في المائة، الأمر الذي لم يكونوا بحاجة إليه ولم يكن باستطاعتهم استخدامه ولم تكن قدرتهم المالية تسمح بتحمل تكاليفه. إلا أنه أخفق، أو رفض، أن يطرح الأسئلة الحقيقية: هل تشكل «الجمهورية الإسلامية» تهديداً للسلام الإقليمي والحكم القانوني على الصعيد العالمي بوجود من دون استعراض تخصيب اليورانيوم السخيف الذي تقدمه؟
ألم تكن «الجمهورية الإسلامية» الراعي الأول عالمياً للإرهاب الدولي على مدار أربعة عقود مع أو من دون تخصيب اليورانيوم؟ هل احتجاز أكثر من 600 رهينة من 32 دولة، بينها الولايات المتحدة وجميع الدول الأوروبية الكبرى، له أدنى صلة بتخصيب اليورانيوم؟
في الواقع، لم يمر يوم واحد طوال العقود الأربعة الماضية من دون أن تحتجز «الجمهورية الإسلامية» بعض الرهائن. وماذا عن مهاجمة سفارات 17 دولة في طهران وشن غارات إرهابية ضد السفارتين الأميركية والفرنسية وقواعد عسكرية في لبنان؟
هل كان مئات الجنود الأميركيين الذين فقدوا حياتهم في العراق بسبب العبوات الناسفة المزروعة على جانب الطريق من قبل طهران، ضحايا لتخصيب اليورانيوم؟ وماذا عن اغتيال 118 منشقاً إيرانياً داخل 20 عاصمة ومدينة بمختلف أرجاء العالم، منها واشنطن وبرلين ولندن وباريس ودبي؟
في الواقع، لا تعد الناشطة مسيح علي نجاد أول هدف أمام عصابات الاختطاف الخمينية. وتبعاً للتقديرات، فإنه على امتداد 40 عاماً، اختطف النظام الخميني أكثر من 50 صحافياً معارضاً من دون اللجوء لتخصيب اليورانيوم.
وقد تعرض المركز الثقافي اليهودي في بوينس آيريس للتفجير بدون الحاجة لتخصيب اليورانيوم، وكذلك تفجير محطة مترو سانت ميشيل في باريس. كما أن الهجمات الإرهابية ضد مقار إقامة المتعاقدين الأميركيين في الخُبر وعدد من الأهداف في تايلند وباكستان والكويت لم تستلزم هي الأخرى تخصيب اليورانيوم.
كما دفعت «الجمهورية الإسلامية» لبنان نحو حافة كارثة وطنية عبر جرها للتورط في مغامرات مميتة لا علاقة لها بالمصالح الوطنية اللبنانية. كما أن سياسات طهران الرامية لإطالة أمد الحرب في اليمن، وتأجيج الاضطرابات في البحرين، وإلحاق الضعف بسلطة الحكومة العراقية عبر رعاية وحدات مرتزقة والعمل كجنود مشاة لروسيا داخل سوريا لا صلة لها بقضية تخصيب اليورانيوم. وكذلك الحال مع محاولات دعم جماعة «طالبان» داخل أفغانستان على أمل إثبات، مثلما ذكرت صحيفة «كيهان» اليومية، أن الولايات المتحدة منيت بـ«هزيمة أخرى».
وتكمن المفارقة في كل ذلك في أن الولايات المتحدة حاولت التحدث إلى الملالي عن تخصيب اليورانيوم، رغم أنه أمر قانوني تماماً في الإطار الذي أقرته معاهدة حظر الانتشار النووي وتتولى تنفيذه بصورة روتينية 18 دولة أخرى على الأقل بمختلف أرجاء العالم، في الوقت الذي لم تتناول واشنطن النشاطات الأخرى غير القانونية، ناهيك عن الإجرامية، التي ترعاها طهران على نحو يشكل خرقاً للقانون الدولي - نشاطات مثل تفجير الأبرياء في لندن أو باريس واختطاف أشخاص من واشنطن وإسطنبول.
وعند رسم خريطة للإرهاب العالمي خلال العقود الأربعة الماضية، سيتضح أن «الجمهورية الإسلامية» تورطت، على نحو مباشر أو غير مباشر، في عدد أكبر من الهجمات داخل عدد أكبر من الدول عما اقترفته جماعات أخرى مشابهة لها آيديولوجياً، مثل «القاعدة» و«طالبان» و«داعش» و«بوكو حرام».
ويفترض الملالي أنه طالما باستطاعتهم خداع العالم، خاصة الأميركيين الذين يحلو لهم خداع أنفسهم، من خلال الترويج لشبح «النووي»، فإن باستطاعتهم التمتع بحرية القتل والاختطاف وتدمير أسس الدولة في بلاد أخرى إقليمية، في الوقت الذي يتلقون مكافآت نقدية من الولايات المتحدة وكبار حلفائها الذين يتظاهرون بأنهم حماة القانون والنظام العالمي.
من ناحية أخرى، فإن الأمر ربما يستغرق بضعة أسابيع أخرى قبل أن تتمكن طهران من تكوين فريقها التفاوضي الذي ربما يتضمن محمد جواد ظريف وربما لا. ويوفر هذا بعض الوقت أمام إدارة بايدن لإقرار سياسة تتسم بقدر أكبر من الحذر قبل العودة إلى فيينا. ويجب أن تتضمن هذه السياسة عكس ترتيب القضايا التي يجري الحديث عنها، بمعنى أنه يجري الحديث أولاً عن الإرهاب وتصدير الثورة وغسل الأموال والاختطاف ومجموعات القنص دونما حدود. وبعد ذلك فقط، يمكن أن تنتقل دفة الحديث إلى تخصيب اليورانيوم ورفع التجميد عن الأصول.
بجانب ذلك، هناك حاجة لأن يتحدث بايدن وحلفاؤه حول «حقوق الإنسان» وأمور أخرى مشابهة، تحولت إلى عنصر رئيسي في دبلوماسية عالمية جوفاء، لأن مَن يطالبون باحترام مثل هذه الحقوق لا يعنون حقاً ما يقولونه ومن يستمعون إليهم يدركون هذا الأمر.
وعليه، فإنه على الإدارة الأميركية أن تتحدث إلى ملالي طهران، لكن مع العمل على ضمان الحديث حول قضية مهمة حقاً وتوصيل رسالة واضحة بهذا الشأن مفادها: الكف والمنع!