بقدر ما كانت صراحة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في مؤتمره الصحفي (الخميس 8/7/2021) لتبرير تسرعه في سحب القوات الأمريكية من أفغانستان «صراحة جارحة» ومستفزة، إن لم تكن «كاشفة» للنوايا الأمريكية نحو الحلفاء عندما تتعارض المصالح، إلا أن الجانب الآخر «المسكوت عنه» في تلك التصريحات لم يثر اهتمام المراقبين، رغم أهميتها القصوى من منظور الأبعاد الاستراتيجية والمكاسب الأمريكية المأمولة من هذا الانسحاب.
كان واضحاً من كلام بايدن أنه يريد الانسحاب من أفغانستان وسريعاً، ولم يسأل أحد لماذا؟ كل ما شغل الصحفيين الذين حضروا المؤتمر الصحفي كان التركيز على مخاطر الانسحاب الأمريكي على بقاء حكومة كابول الحليفة، لذلك اضطر بايدن إلى تجاهل كل تعليقاتهم.
ولكي يحسم النقاش ردّ بايدن على الرافضين للانسحاب الأمريكي من أفغانستان بعبارتين، قال في الأولى إن «بلاده حققت منذ فترة هدفها الأصلي من غزو أفغانستان عام 2001 وهو استئصال تنظيم القاعدة، ومنع شن أي هجوم آخر مماثل لهجمات 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001».
وقال في عبارته الأخرى: «حققنا تلك الأهداف (استئصال القاعدة) التي ذهبنا من أجلها.. لم نذهب لأفغانستان لنبنى أمة.. هذه مسؤولية الشعب الأفغاني وحده، وحقه في أن يقرر مستقبله وكيفية رغبته في إدارة بلاده».
كل كلام بايدن مردود عليه، فهو لا يملك أن يقطع بأن الخطر قد انتهى نهائياً، وأن الولايات المتحدة باتت آمنة تماماً من أي اعتداء خارجي مشابه لاعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، في ظل نجاح قوات «طالبان» في السيطرة على أكثر من 85% من أراضي البلاد، وتنبؤات الاستخبارات الأمريكية بأن سقوط حكومة كابول الموالية لن يتأخر أكثر من ستة أشهر. هذا يحدث وكل من تنظيمي «القاعدة» و«داعش» يستنهضان وجودهما في أفغانستان لبدء مرحلة جديدة قد لا تجعل أمريكا وحكومة كابول في أمان يتوقعه الرئيس الأمريكي.
كما أن تنصل بايدن من مسؤولية بلاده أخلاقياً عن إعادة تعمير وبناء ما دمرته بعدوانها على أفغانستان تحت غطاء الانتقام من «طالبان» والقضاء عليها والثأر لاعتداءات «القاعدة» في 11 سبتمبر 2001 ستبقى آثاره السلبية تطارد الرئيس بايدن وإدارته، سواء عادت «طالبان» لتسيطر على أفغانستان، أو نجح خيار التسوية السلمية مع حكومة كابل.
الجانب الأهم في حديث بايدن الذي لم يحظ بالاهتمام، والذي ربما يكون المبرر الحقيقي والأهم لقرار الانسحاب، هو تصدير أسوأ أزمة إلى أعداء الولايات المتحدة ممن يشكلون الجوار الإقليمي لأفغانستان وبالتحديد إيران وروسيا والصين، في ظل قناعات جادة بأن الحرب الأهلية ستكون الخيار الأرجح لعودة «طالبان»، وأن تفاهمات «طالبان» مع إيران وروسيا، أو حتى مع الصين، ربما تكون تفاهمات مؤقتة وتطمينات زائفة إلى أن يحدث «التمكين» القوي بالسيطرة على كل العواصم الإقليمية ودخول كابول العاصمة، وإعلان عودة «الإمارة الإسلامية».
وعندما يحدث ذلك يكون بايدن قد حقق بتسريع انسحابه من أفغانستان مكسبين للولايات المتحدة في ظل جدية المعلومات الاستخباراتية الأمريكية عن سيطرة مؤكدة لسقوط حكومة كابول في غضون ستة أشهر، على أقصى تقدير.
المكسب الأول، هو وضع نهاية للخسائر الأمريكية في الأرواح والخسائر المادية. فالغزو والسيطرة الأمريكية على أفغانستان كلفا الأمريكيين أكثر من تريليوني دولار، وأكثر من 3500 قتيل، فضلاً عن عشرات الآلاف من المصابين والمعاقين. أما المكسب الثاني فهو توريط أعداء أمريكا في المستنقع الأفغاني ودفع الدورة الأفغانية لتدور، فبعد أن أخذ السوفييت نصيبهم من الخسائر من غزوهم أفغانستان، وأخذ الأمريكيون نصيبهم بعدهم، ربما يكون الدور قد جاء لتعود روسيا إلى المستنقع الأفغاني، وربما تكون الصين هي المرشحة لذلك، لوقف اندفاعتها الاقتصادية وكسر ظهر مشروعها الاقتصادي العملاق، خصوصاً مع باكستان المعروف باسم «الممر الاقتصادي الصيني- الباكستاني» الذي يتضمن مشاريع صينية في باكستان مقدارها 60 مليار دولار، فضلاً عن وجود فرصة سانحة لإشغال إيران بالخطر الطالباني، وإرباك حساباتها الاستراتيجية في ملفي البرنامج النووي وسياستها الإقليمية في الدول العربية، فضلاً عن قيادتها ودعمها للتحالف المقاوم لإسرائيل.
الخطر الجيوستراتيجي لعودة «طالبان» يمتد إلى روسيا من خلال احتمالات صراعات حدودية قد تتطور إلى حروب مع «طالبان»، وكل من جمهوريتي طاجيكستان وأوزبكستان في حال عودة كل من حركة «داعش» وجماعة «القاعدة» لتنشيط حركتهما والعودة للتغلغل إلى هذين البلدين في تهديد غير مباشر لروسيا، والتهديد نفسه قد يمتد إلى كل من باكستان والهند، وهناك مؤشرات لذلك منها قيام مجموعات باكستانية بترديد شعارات مؤيدة لطالبان، والتلويح بأعلامها في جنازة زعيم ديني في بيشاور.
يحدث هذا في ظل مخاوف باكستانية من احتمال عودة حركة «تحريك طالبان» الباكستانية لتجديد نشاطها في حال نجاح طالبان في العودة إلى حكم أفغانستان.
توقعات بالخطر الذي قد يمتد أيضاً إلى الهند الداعمة لحكومة كابول، ما يعني أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يمكن أن يتجاوز كل التقديرات السلبية الآنية ويتحول إلى مكاسب استراتيجية أمريكية، وسياسات انتقامية لكل المعادين لواشنطن إذا فشلت جهود إنجاح الوساطات بين «طالبان» وحكومة كابول على مشروع وطني جديد لحكم أفغانستان.
التعليقات