لو كان العراق بلدا طبيعيا لما كانت حاجة إلى حوار استراتيجي وإلى مفاوضات مع أميركا من أجل البحث في مستقبل العلاقة بين البلدين، بما في ذلك الوجود العسكري الأميركي في البلد. في النهاية، إنّ كل النظام القائم حاليا في العراق يرتكز على حرب أميركيّة كلّفت مليارات الدولارات إضافة إلى ضحايا بالمئات في صفوف العسكريين الأميركيين.. حرب خرج منها منتصر واحد هو “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران!

عندما كان الاحتلال الأميركي للعراق يستهدف التخلّص من النظام القائم برئاسة صدّام حسين، كان هذا الاحتلال مرحّبا به. عندما صار الوجود العسكري الأميركي في العراق، حتّى لو كان رمزيا، يتعارض مع النفوذ الإيراني أصبح هذا الوجود “مرفوضا” تجب محاربته.

لو كان العراق بلدا طبيعيا لما كنت حاجة إلى حوار من أيّ نوع بين بغداد وواشنطن. ما يحدث حاليا، بما في ذلك اللقاء بين الرئيس جو بايدن ورئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، بمثابة تتويج لفشلين. فشل أميركي على كلّ المستويات وفشل عراقي مذهل يصعب تحديد حجمه. من الصعب تحقيق نجاح، أو بناء نجاح، انطلاقا من فشلين.

خسرت ألمانيا واليابان الحرب في العام 1945. عرف البلدان كيف يحوّلان الخسارة إلى ربح. ألمانيا قوّة اقتصاديّة يعيش شعبها برفاه، كذلك اليابان. في ألمانيا واليابان قواعد عسكريّة أميركيّة. هذه القواعد موجودة منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية التي استخدمت فيها أميركا القنبلة الذرّية في هيروشيما وناغازاكي. يظلّ النجاح أفضل انتقام. انتقمت ألمانيا واليابان من الهزيمة العسكريّة في مواجهة أميركا عن طريق إعادة بناء البلد مع تركيز خاص على الاقتصاد. هذا ما فعلته ألمانيا التي باتت العمود الفقري للاتحاد الأوروبي.

لنضع ألمانيا واليابان جانبا. كلّ ما يمكن أخذه من تجربتهما هو تلك القدرة على تجاوز المحنة والخسارة والهزيمة الساحقة من أجل التطلّع إلى المستقبل. هذا ما لم يحدث في العراق. هذا يعود أساسا إلى أن العراق ليس ألمانيا أو اليابان. لا وجود في العراق لمن يعرف كيف يخسر أو يربح أو لمن يمتلك القدرة على الاستفادة من تجارب الماضي، مهما كان قريبا.

لعلّ الفشل الأميركي الأكبر، كان في تحويل العراق مكانا تمارس فيه كلّ التجاوزات انطلاقا من انفلات الغرائز المذهبيّة التي هي جزء لا يتجزّأ من المشروع التوسّعي الإيراني.. ليس معروفا إلى الآن كيف كان يمكن لإدارة أميركيّة مثل إدارة جورج بوش الابن الإقدام على خطوة من نوع غزو العراق من أجل إسقاط نظام صدّام حسين من دون امتلاك خطّة واضحة لما بعد الانتهاء من النظام البعثي – العائلي الذي لم يكن يمتلك أي معرفة بموازين القوى في المنطقة والعالم.

تدفع أميركا حاليا ثمن فشلها العراقي. يدفع العراق ثمن العجز عن بناء نظام جديد قابل للحياة بعد العام 2003. لم تستطع الإدارات الأميركيّة المتلاحقة تكوين سياسة واضحة ومتماسكة تجاه العراق. لم يكن هناك أيّ استيعاب للنتائج التي ستترتّب على الإتيان بالميليشيات المذهبيّة العراقية التابعة لإيران إلى العراق. لم يكن هناك استيعاب لمعنى حل الجيش العراقي ولا لتشكيل مجلس الحكم الانتقالي في عهد المفوض السامي بول بريمر مع ما عناه ذلك من تهميش مقصود للسنّة العرب. هل كان طبيعيا كلّ هذا الاحتقار للسنّة العرب في العراق لمجرّد أن صدّام حسين كان سنّيا؟

يمكن فتح ملفات كثيرة تؤكّد الفشل الأميركي وصولا إلى الفشل العراقي الذي جسّده، بكل مفاهيمه، نوري المالكي وغيره والذي يتحملّ نتائجه الآن مصطفى الكاظمي الساعي بالتنسيق مع رئيس الجمهوريّة برهم صالح إلى تدوير الزوايا في العراق.

لا يتحمّل مصطفى الكاظمي وبرهم صالح مسؤولية الفشل العراقي الذي هو نتيجة تراكمات منذ العام 1958، تاريخ الانقلاب العسكري الدموي الذي أطاح بالعائلة المالكة الهاشميّة وصولا إلى حروب صدّام حسين واجتياحه الكويت. كانت الأحداث التي تلاحقت في العراق تمهيدا للاجتياح الأميركي لبلد كان في استطاعته لعب دور مهمّ في الشرق الأوسط وحتّى في منطقة الخليج. ما لا يمكن تجاهله أنّ العراق هو أحد البلدان القليلة في المنطقة التي تمتلك ثروات عدّة متمثّلة في النفط والإنسان والمياه.

يصعب تصوّر كيف تحوّل العراق بمدنه المزدهرة، مثل بغداد والبصرة والموصل، إلى دولة فاشلة. ما هو أصعب من ذلك، تصوّر كيف لإدارات أميركيّة متلاحقة، خصوصا إدارة باراك أوباما، تجاهل معنى الهيمنة الإيرانيّة على العراق وأبعادها الإقليميّة.

هل يأتي يوم تدرك فيه واشنطن أنّ العراق هو العراق وأنّ إيران هي إيران وأنّ لا توازن إقليميّا من دون توازن بين العراق وإيران، توازن لا يقوم على عداء بين بغداد وطهران؟

في إعادة مثل هذا التوازن يكمن لب المشكلة. ولأنّ المشكلة في الهيمنة الإيرانية على العراق، وهي هيمنة يرفضها العراقيون بأكثريتهم الساحقة، ليس الحوار الأميركي – العراقي سوى مضيعة للوقت، على الرغم من كل النيات الحسنة لمصطفى الكاظمي وسعيه لعلاقات طبيعية للعراق مع إيران من جهة ومع الدول العربيّة من جهة أخرى.

لعلّ أخطر ما في الأمر أنّ في العراق ميليشيات تابعة لإيران يسمح القائمون عليها لأنفسهم بمهاجمة الوجود الأميركي في بلد كان صدّام حسين سيظلّ يحكمه إلى اليوم لولا الجيش الأميركي… ولا أحد غير الجيش الأميركي.

بكلام أوضح، إن الفشلين الأميركي والعراقي لا يبنيان نجاحا… في غياب الرغبة في الذهاب إلى أساس المشكلة. أساس المشكلة أن لا عراق في ظلّ هيمنة “الحشد الشعبي”، الذي ليس سوى مجموعة ميليشيات إيرانية، تهيمن على القرار في بغداد. أمّا العراق هو العراق وأمّا هو تابع لإيران. عندئذ، ستكون الحاجة أكثر من أيّ وقت إلى بحث جدّي أميركي في مستقبل العراق مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” وليس مع مصطفى الكاظمي ووزير الخارجية العراقي وآخرين مقيمين في بغداد.