الغنوشي يعترف الآن - وبعد فوات الأوان - بتحمل جزء من المسؤولية، وبارتكاب أخطاء، ويهدد بنزول جماعته للشارع إن لم يتم التحاور معه.
لا أعتقد أن الغنوشي يعي خطأه الكبير حتى اللحظة، مثلما لم يعِ قبله الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي حتى أثناء محاكمته خطأه، مثلما لم يعها جميع أعضاء أحزاب الإسلام السياسي الذين نجحوا في الوصول لموقع القرار في الدولة العربية أو حتى غير العربية.
الخطأ القاتل لأي حزب سياسي هو عدم الاعتراف بـ«الدولة» التي ينتمي لها الحزب ذو الصبغة الدينية، رغم أن أدوات تلك الدولة الدستورية هي التي منحته الفرصة!
إلى هذه اللحظة لا يعي الغنوشي أن السبب الذي من أجله خرجت الجماهير المصرية في 30 يونيو (حزيران) عام 2013، هو ذاته الذي أخرج الجماهير التونسية الأسبوع الماضي، وإن كانت مصر قد صبرت عليهم سنة في سدة الحكم، فإن التوانسة صبروا عليهم عشرة أعوام، ومن ثم وصل الاثنان للنتيجة ذاتها، وهي حتمية إنقاذ «الدولة» قبل التفكيك.
أثبتت كل التجارب العربية من أقصى الشمال لأقصى الجنوب أن الأحزاب الدينية - شيعية الصبغة أو سنيتها - خططوا طوال فترة عملهم وانشغالهم بالسياسة سراً أو علناً للوصول للسلطة، حتى إذا ما وصلوا لسدة الرئاسة في بعض الدول، أو احتلوا برلمانات أو تحكموا فيها في دول أخرى، أو شكلوا حكومات في البعض الآخر، جميعهم يعملون للغرض ذاته، ألا وهو تفكيك الدولة تمهيداً لضمها للأمة!
سرعان ما تكتشف الشعوب أن تلك الأحزاب لا تملك مشروع دولة، لا تملك برنامجاً تنموياً، لا تملك رؤية مستقبلية، مشروعها كان الوصول لموقع القرار والاستيلاء على السلطة. أما الجزء الأخطر من مشروعها فكان العمل على تفكيك الدول القطرية التي وصلوا لسلطاتها من الداخل وربطها بقيادة مركزية أجنبية عن طريق الأدوات الدستورية ذاتها التي منحتهم فرصة الحكم!
الأحزاب الدينية لا تعترف بحدود سيادية، ولا بدستور الدولة، ولا بقوانينها ولوائحها وأنظمتها وبقية سلطاتها. في كل الدول العربية التي وصلت فيها تلك الأحزاب لمواقع القرار تجاوزت جميع الأطر الدستورية السياسية وهم لا يرون حرجاً في ذلك لأنهم ينتمون لأمة لا لدولة.
النهج ذاته حدث مع كل فرع عربي أو غير عربي لحزب «الإخوان» ولـ«حزب الله» في لبنان والعراق، التجربة ذاتها تتكرر حتى في أفرعها الشرق آسيوية، رغم بُعد المسافة الجغرافية واختلاف اللغة، فإن صراع الهويات الوطنية والإسلامية هو دائماً المعركة التي تنشغل بها تلك الأحزاب مع القوى الوطنية حتى في ماليزيا وإندونيسيا.
معارك الجماهير المضادة للأحزاب الدينية كانت لمنع رهن القرار الوطني لأجندات خارجية.
المشكلة أن تفكيك الدولة عند تلك الأحزاب لا يقتصر على نزع هويتها الوطنية والارتهان لأجندات خارجية وتجاوز الحدود السيادية؛ المشكلة أن تفكيك الدولة يتطلب جهداً أكبر لنخرها من مقوماتها.. يتطلب تعطيل التنمية، تفشي الفساد، ضعف الخدمات وترديها، إهدار القانون وتجازوه، طمس الهوية الوطنية فلا عَلَم وطني ولا يوم استقلال وتراث أو فلكلور شعبي ولا حتى الملبس والمظهر. انصهرت تلك الأحزاب في ثوب فضفاض لا هوية له يقصر ويطول ويتلون حسب أسود أو أبيض وفقاً مواقع الصراعات (الجهاد) تراه أفغانياً وتارة بوسنياً وتارة خليجياً وتارة شامياً وتارة إيرانياً، حتى إذا ما خارت قوى الدولة وفقدت مقوماتها وضعفت مقاومة المعارضين الوطنيين، تحولت القيادة في أي دولة تسيطر عليها تلك الأحزاب إلى مجرد «فرع» أو بمعنى أصح «ولاية» تابعة للقيادة المركزية... وهكذا هي معركة اللبنانيين مع «حزب الله» ومعركة العراقيين مع فصائل الحشد ونوابهم في البرلمان الموالية لإيران.
أخطاء الغنوشي ومرسي وحسن نصر الله وعبد الملك الحوثي، هي واحدة، ألم يعرّف نائب في أحد البرلمانات نفسه للسفير الإيراني «خادمكم المتواضع...»؟ ما سمح لهذا النائب أن يخون وطنه، وهو الذي يمثل الشعب هو المنطق ذاته الذي سمح للغنوشي أن يسافر لتركيا من دون أن يرجع لمجلس النواب التونسي، فهم لا يرون في ذلك خطأ.
لم تخرج الجماهير ضد حزب النهضة، بل خرجت دفاعاً عن تونس الدولة، كما فعلت الجماهير في مصر، كما فعلت في البحرين، كما تفعل الآن في العراق وفي لبنان، وكما ستفعل في (ولايات) شرق آسيوية قريباً، فتونس انتصرت «للدولة».