في الماضي كان الفلاحون في الحقول الشاسعة يتعلّمون الحكمة من الكائنات وعلاقتها مع الزمن، كثيرٌ منهم راقب نموّ الخضار والفواكه واستقى منه دروساً في الحياة، فالكائنات الأخرى غير الإنسان، لم يسهل على الدهر التغلّب عليها وقهرها وجعلها تندثر.

رأى الفلاحون أن الحوليّات التي تعيش موسماً واحداً، لديها من الذكاء البيولوجي القدر الذي يجعلها تعطي أفضل ما عندها لا في بداية الموسم، بل حين تشعر بخطر انقضائه، في أواخره، حين تشعر باقتراب الموت، وحين تدرك أنها في لحظات حياتها الأخيرة. ومن ذلك استمد الفلاح أمثولة أن يعيش تحت الخطر، وأن يتقن الدفاع عن وجوده في تلك اللحظات.

الصيادون لم يفعلوا ذلك وحده، بل فكّروا في عوامل عدّة، مثل “البحث عن الغذاء“، و“التنافس” و”التخفّي من الضواري”، البيئة القاسية وصعوبات المهنة والصحة والحياة العامة، كل تلك المهارات ساقت الإنسان إلى العيش في هذا الكون الموحش دون أن يشعر بالوحشة. فلديه ما يتحدى لأجله.

لكن مهلاً، نحن لا نعيش اليوم في عصر الطبيعة، التي انحدر الإنسان للعيش فيها إما فلاحاً أو صياداً، بل في عصر التكنولوجيا. لكن هل غيّر الإنسان من عاداته تلك التي تعشّش في جيناته؟

قرأتُ للفيلسوف النيوزلندي ديفيد ستينهاوس، عالم النفس الذي طارد تطوّر الذكاء البشري واعتبره “سلوكاً تكيّفياً متغيّراً خلال فترة حياة الفرد”. ما يجعل من مهارة الشعور باقتراب الشمس، الفاعل الأكبر في حياة النباتات، أمراً لا يحدث مرّة واحدة في الحياة، بل هو تجربة يكابدها الباحث عن ذلك النور المبهر، وفي كل مرّة يعيد تجديد قدرته على الشعور بها والعثور عليها.

ستينهاوس بحث في علم الجمال وفي الثقافة والأخلاق والفنون، وهي مجتمعة حزمة من تجليات وأعمال العقل، أما الفشل في معايشة كل تلك الحيثيات فهو تراجع كبير في الذكاء البشري. ومن ذا الذي بوسعه أن يشتكي من فشله في عمله أو محيطه، وفي الوقت ذاته يدّعي حيازة ذكاء رفيع؟ كل تلك معادلات. وعدم القدرة على حلّها اعتراف بمستويات محدودة للذكاء.

إلا أن الإنسان الحديث، وبفعل ضلالاته الذهنية، ابتكر حيلاً للتهرّب من الذكاء، من بينها الركون إلى شخصية الضحية والتأوّه الدائم والأنين والندب. لعلّ أحداً يُشفق عليه ويأتي لنجدته. ولا أحد يأتي ولا هم يحزنون. فيكرّر المحاولة مرات تلو المرات، حتى يقضي عمره متمسكناً هشّاً يخرج من هذه الدنيا كما دخلها دون أن يترك أيّ أثر يُذكر. كيف يمكن لأحدٍ بكامل وعيه أن ينسب لنفسه مستوى ذكاء متطوّر ورفيع ومع ذلك يشتكي من الوقوع فريسة للضواري؟