ما أكثر القضايا العالقة في العالم العربي، وما أكثر الأوهام التي تغلّفها، وما أسهل الركون إلى الآخر بصفته المخلّص بعد اتهامه على مر سنوات طوال بأنه وراء المشاكل.

جزء من العقلية التي تدير عدداً من الدول العربية تشبه عقلية المكتئب، الذي ينظر إلى نفسه على أنه ضحية، ويواصل نحت هذا الإحساس في نفسه حتى يصدقه ويبدأ بتسويقه، وذلك للظهور بمظهر المظلوم، والمعتدى عليه أو المناضل، ولإظهار الآخرين بأنهم يتآمرون عليه بشكل مستمر، من دون إظهار سبب واحد لهذا التآمر.

وقد يختلف الأمر مع الدول، فهي تروّج على أنها مستهدفة، وهناك من يعوق مشاريعها التنموية، ومن يحاصرها ويمنع إدخال التكنولوجيا المتطورة والآلات الحديثة والمصانع المنتجة إلى أراضيها، ولهذا تعاني ترهّلاً في الاقتصاد، وضعف في الأداء الحكومي، ويعاني شعبها الفقر والتخلّف، وبنيتها التحتية من التأخّر.

هذه حالة نفسية معروفة لدى المعالجين النفسانيين، وهناك كتب باللغات كافة تتحدث عن الاكتئاب وأنواعه، وهو جلد للذات بالنسبة للأفراد، أما بالنسبة للدول، فهو جلد للذات في المظهر، وتقاعس وفساد مستشر في الجوهر.

منذ دخول القضية الفلسطينية في دائرة العملية السلمية التي ترعاها الدول العظمى والشركاء المحليون، وعبارة (الترتيبات الأمنية الإقليمية) تتردد على ألسنة المحللين الرسميين والذين يدورون في فلكهم. ونعود إلى القضايا العالقة التي بدأنا بها المقال، فإن حلّها يرتبط جوهرياً ب(الترتيبات الأمنية الإقليمية) القادمة، وعلى سبيل المثال، عدم الاستقرار في لبنان، السياسي والاقتصادي والمعيشي والاجتماعي، بما فيها أزمة الكهرباء والمحروقات والمياه والدواء وغيرها، هذه الأزمات ستستمر إلى حين وضع (الترتيبات الأمنية الإقليمية)، وعدم الاستقرار في سوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان وتونس وغيرها، سيستمر إلى حين وضع (الترتيبات الأمنية الإقليمية)، والانقسام في الصف الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس سيستمر إلى حين استكمال (الترتيبات الأمنية الإقليمية)، وهكذا، يمكن ذكر كل التخلّف في الميادين التعليمية والتربوية وتخلّف المناهج، وسوء البنى التحتية وانتظار (الترتيبات الأمنية..) لإيجاد الحلول.

الذين يتحدثون عن (الترتيبات الأمنية..) يعنون على الأغلب، المصالحة مع إسرائيل وتحقيق السلام في المنطقة، لأن أي ترتيبات أمنية لا يمكن أن تعني سوى هذا المحور، أي أنهم، ينتظرون إقامة السلام مع إسرائيل برعاية أمريكية فرنسية بريطانية روسية وربما صينية، ورسم صورة نهائية للصراع العربي الإسرائيلي، أي أنهم يوافقون على هذا التوجّه، وهو أمر مدهش حقاً، لأن المتحدثين بشأن (الترتيبات الأمنية..) ينتمون إلى المعارضة والأنظمة، ينتمون إلى الثوريين وغير الثوريين، فهل يرددون هذه العبارة (الترتيبات الأمنية..) هروباً من حل الأزمات؟ أم أنهم يوافقون على محتوى هذه الترتيبات؟

في الواقع، لا علاقة لإسرائيل بالأزمات المعيشية التي تعانيها الشعوب، ما دخل إسرائيل بأزمة القمامة في لبنان، أو العتمة التي تسود هذا البلد منذ ثلاثين عاماً، وما علاقة إسرائيل بمستوى المعيشة في سوريا، أو الطائفية والفساد في العراق، أو الانشقاق في اليمن؟ لو لم تكن هناك إسرائيل سيكون الواقع المتخلف موجوداً أيضاً، نظراً للتكالب على السلطة، وتفشي الفساد وسوء الإدارة، إضافة إلى غياب الإنتاجية الحقيقية، واستنزاف ثروات البلدان واحتكارها بأيدي شخصيات محدودة إما في السلطة أم مقرّبة من السلطة.

نحن لا نستطيع استبعاد إسرائيل كونها جزءاً من المشكلة، ووقعت حروب مدمرة معها، لكن، من ناحية أخرى، لم تنشب حرب منذ 1973 مع مصر وسوريا، ولم تنشب حرب مع لبنان منذ عام 2006، فلماذا تستمر الأزمات المعيشية، ولماذا انتظار الترتيبات؟ ولماذا إلقاء المسؤولية على الآخر؟

الشعوب تعرف كل شيء، لكن أرهقوها بالأزمات إلى درجة لم تعد تفكر إلا في تأمين قوت يومها وحاجاتها الضرورية، والآخر ليس عدو الرخاء الاقتصادي والسلام المجتمعي، إنما الفساد بتشعباته وكل معانيه ومجالاته التي تشمل القضاء، هو المسؤول عن الأزمات، و(الترتيبات الأمنية..) حين تتجسّد، لن تغيّر شيئاً، وستبقى الأنظمة المعنية (قضايا عالقة) إلى أجل غير مسمى، طالما هي مسيّرة من قبل حكام لا يتسمون بالنزاهة.