إلتزم صلاح عبد السلام، الناجي الوحيد من المجموعة التي نفّذت الهجومات الإرهابية في باريس ومحيطها في الثالث عشر من تشرين الثاني ( نوفمير) 2015 الصمت، منذ اعتقاله في بلجيكا في الثامن عشر من آذار( مارس) 2016، حتى افتتاح محاكمته و19 آخرين، في محكمة الجنايات الخاصة، في قصر العدل في باريس.

ومنذ وضع عبد السلام حدّاً لصمته، طرح مشكلة من نوع آخر، إذ إنّه يسعى الى تحويل قفص الإتهام الذي يمثل فيه الى جانب 13 متّهماً آخر ( الستة الآخرون تتم محاكمتهم غيابياً) إلى منبر دعائي للعمليات الإرهابية التي شارك فيها لمصلحة تنظيم "داعش" بعدما أعلن، على الملأ، أنّه "جندي" فيه، الأمر الذي أثار استهجان الضحايا وذويهم، من جهة وطرح إشكالية مهنية على الصحافيين الفرنسيين الذي يتولون تغطية هذه المحاكمة غير المسبوقة في تاريخ فرنسا الحديث، من جهة أخرى، بحيث راح هؤلاء الصحافيون يتساءلون عن الطريقة التي يجب اعتمادها للتعامل مع كلام عبد السلام، فهل ينقلونها كما هي، فيتحوّلوا الى جهاز دعائي لديه، أو يتدخّلون فيها، فيخرقوا واجب الموضوعية؟

ولم تُطرح إشكالية مماثلة في فرنسا، قبل اليوم لأنّه لم يسبق أن مثل أيّ متهم رئيسي بعملية إرهابية في قفص المحاكمة، بفعل أنّ من منفّذي هكذا عمليات كانوا يقتلون أنفسهم، إمّا بحزام ناسف، أو في اشتباكات مسلّحة مع القوى الأمنية التي تحاول القبض عليهم.

صلاح عبد السلام نجا من الموت، لأنّه لم يفجّر نفسه، كما كان مقرراً، أمام أحد أبواب "ستاد دو فرانس"، ولم يشتبك مع القوة الأمنية البلجيكية، حين هاجمته في مخبئه في العاصمة البلجيكية، فألقي القبض عليه حيّاً.

ولم يفهم المحققون والمراقبون الأسباب الحقيقية لصمت عبد السلام الطويل في كل مراحل التحقيق معه، سواء في فرنسا أو في بلجيكا-حيث جرت محاكمته في ملفات إرهابية أخرى-إلّا حين وقف في القاعة المستحدثة الضخمة في قصر العدل في باريس، وفي محاكمة جاذبة لوسائل الإعلام المحلية والدولية، ليلعن انتماءه لتنظيم "داعش" ويبلغ الفرنسيين أنّهم ليسوا ضحايا الكراهية بل ضحايا قرار رئيسهم( في حينها) فرانسوا هولاند الذي أمر الجيش الفرنسي بمهاجمة مواقع تنظيم داعش في سوريا وعلى الحدود السورية العراقية، ممّا أسقط الكثير من القتلى في صفوف النساء والأطفال، متسائلاً، أمام إصرار المحكمة على حقوق الضحايا في التعبير عن عذاباتهم ومعرفة الحقيقة الكاملة، عن حقوق الضحايا الذين سقطوا من جرّاء الضربات الجوية الفرنسية.

ومنذ لفظ كلمته الأولى، لم يتوقف عبد السلام عن التدخّل، مراراً وتكراراً، في مسار المحاكمة، معطياً نفسه الحق في التعليق، كلّما وجد ذلك مناسباً، الأمر الذي أثار استياء المتضررين وأوجد ارتباكاً مهنياً لدى الصحافيين، فالمتّهم لا يدفع ببراءته بل يتباهى بجرائمه.

ولم تجد محكمة الجنايات الخاصة ما يعينها على "قوننة لسان" عبد السلام، إلّا عندما اتخذت قراراً بالتحكّم بالميكروفون الخاص به، لأنّ صوت المتهمين الجالسين في قفص محاط بالزجاج الواقي من الرصاص، لا يصل مباشرة الى سائر الموجودين في قاعة المحاكمة الضخمة إلّا من خلال هذا الميكروفون.

وأتت الفرصة السانحة لتطبيق هذا القرار الذي يعيد للمحكمة القدرة على إعطاء الإذن بالكلام من عدمه، حين خرق عبد السلام حظراً يمكن أن يجمع عليه الفرنسيون إذ أعلن الموصوف بأنّه "أكثر شخص مكروه في فرنسا" أنّ "من يتم وصفهم بالإرهابيين والجهاديين والراديكاليين هم في الواقع مسلمون، ويعبّرون عن الإسلام الحقيقي".

ويتنافى موقف عبد السلام هذا مع ما يذهب إليه المدافعون عن الإسلام، بحيث يعتبرون أنّ دينهم براء من الإرهاب والإرهابيين، في حين أنّه يتلاقى مع دعاية اليمين المتطرّف الذي يجهد ليؤكّد أنّ الإرهابيين هم التعبير الحقيقي عن الإسلام ونصوصه وتعاليمه.

وخفّف قرار المحكمة التي ستنعقد على مدى تسعة أشهر، لجهة التحكّم بميكروفون صلاح عبد السلام، شيئاً من النقمة التي بدأت تتكوّن في الرأي العام الفرنسي، من جرّاء تفلّت هذا المتّهم المتباهي بأفعاله، من كل الضوابط محوّلاً المحاكمة الى واحد من أجهزة الدعاية التابعة ل"داعش".

قبل ذلك، كانت إشارات امتعاض قد بدأت تصدر، عبّرت عنها صحيفة "لوموند" الفرنسية في اختيارها لرسم كاريكاتوري نشرته، حيث يظهر القاضي من على قوسه، وهو يقول للمتهم في قفصه:" لقد حكمت عليك بعدم الموت".

ومعروف أنّ عقوبة الإعدام كانت قد ألغيت في فرنسا، في العام 1981، وأصبحت العقوبة القصوى هي السجن مدى الحياة.

وقبل ان تنطلق المحاكمة، حاولت السلطات الفرنسية إعطاء هذه المحاكمة التي تجنّب عدد من الدول إجراءها بصورة علنية، كالولايات المتحدة الأميركية، أبعاداً "فلسفية"، بحيث لفتت الى أنّ هذه المحاكمة هي الشاهد على الفارق بين ما تقدّمه الديموقراطيات من نماذج إنسانية، وبين ما يقدم عليه الإرهابيون من أعمال وحشية.

ويجلس في قفص المحاكمة بين المتهمين أسامة كريّم الذي ساعد صلاح عبد السلام خلال مطاردته في بلجيكا. وكريّم، هو أحد الجلّادين الذين نفّذوا عملية حرق الطيّار الأردني معاذ الكساسبة في سوريا، في بداية العام 2015.

وفي فرنسا، لا يمر المنطق الذي يعتمده الإرهابيون مرور الكرام، لأنّه يجد له آذاناً صاغية في عدد من التجّمّعات الإثنية والدينية، ولهذا فإنّ الحكومة فيما تتّخذ خطاً متصلّباً في التعامل مع الإرهابيين، تلجأ الى فتح خطوط "مصالحة" مع هذه المجموعات، كما حصل بالنسبة للمجازر الإثنية في رواندا، حيث وقفت فرنسا موقف المتفرّج، وبالنسبة لجرائم الحرب التي ارتكبتها فرنسا في حرب الجزائر.

وفيما كان عبد السلام يرفع صوته ضد العمليات الفرنسية التي استهدفت رجال ونساء وأطفال "داعش" بأمر من هولاند الذي وافق أن يمثل، في وقت لاحق، شاهداً في هذه المحاكمة، كان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون يطلب، باسم بلاده، الغفران من "الحركيين" الجزائريين الذين ساعدوا الجيش الفرنسي، خلال "الثورة الجزائرية"، متعهّداً بتقديم مشروع قانون، لتثبيت هذا "الندم" رسمياً مع ترجماته التنفيذية.

وكانت السلطات الفرنسية قد تعاملت، باستخفاف كبير مع مائتي ألف جزائري ساعدوها، بحيث تركت قسما كبيراً منهم من دون مساعدة، ممّا أوقع ما بين ستين وثمانين ألف شخص فرائس سهلة لانتقام الثوّار المنتصرين، فيما القسم الذي جرى إخراجه الى فرنسا جرى إهماله، بشدة.

واستعمل أعداء فرنسا، وعلى رأسهم التنظيمات الإرهابية، هذا الملف وغيره من "الملفات السوداء، من أجل تبرير كل استهداف للبلاد.

وكان لافتاً للإنتباه أنّ ماكرون، بعد حوالي ستين سنة على انتصار "الثورة الجزائرية" قلّد وساماً رفيع المستوى لضابط فرنسي اسمه فرانسوا مايِر( 88 سنة)، سبق أن تمرّد على قرار القيادة وعمل على إخراج مئات "الحركيين" من الجزائر الذين عملوا معه، عند صدور الأوامر لانسحابه منها.

إنّ فرنسا التي تحاكم صلاح عبد السلام ورفاقه لارتكابهم جرائم حصدت 130 قتيلاً ومئات الجرحى، في هجومات الثالث عشر من تشرين الثاني(نوفمبر) 2015 تعرف أنّ التاريخ لا يرحم، ولا يمكن بناء المستقبل إلّا على قاعدة تصحيح ما يمكن تصحيحه من هذا التاريخ.

ويمكن لبلسمة جراح الأمس التي كان قد جرى إغلاقها على زغل، ليس أن تساهم، يوماً ما، في تجفيف أحد أهم منابع الإرهاب فحسب، بل في جعل كلمات متّهم، على قياس صلاح عبد السلام، ولو فتحت له كل الميكروفات، من دون صدى، أيضاً.