التغييرات الكبرى في موازين القوى الدولية تؤثر بشكل ظاهر في مصائر الدول والشعوب، وتشكل مصدر قلق وتفحص لكل القوى المؤثرة حول العالم، وما يجري منذ سنوات على مستويات متعددة يدفع باتجاه أن ما يجري في العالم أجمع ليس مجردَ اختلافات تكتيكية، بل هي تغييرات استراتيجية مهمة ستكون لها آثارها الكبرى مستقبلاً.
الدول الحية والفاعلة والمؤثرة لا تقف أبداً موقف المتفرج، بل تخطط وتعمل وتشارك في صنع التاريخ والتفاعل مع الأحداث وبناء المستقبل، كل بحسب قوته وفاعليته ورؤيته، فهي تقرأ السياسات الدولية والتغييرات التي تطرأ عليها وتستشرف المستقبل وتستبق الأحداث لتحسن التعامل معها، وتكون مستعدة لها قبل أن تقع.
حدثان كبيران معبران في هذا السياق، الانسحاب الأميركي المستعجل من أفغانستان وأزمة الغواصات بين أميركا وبريطانيا وأستراليا من جهة، وفرنسا من جهة أخرى، والموقف الفرنسي بحاجة إلى التأمل والقراءة المتمعنة في حجمه وتفاصيله والمؤشرات التي يدفع باتجاهها ويدل عليها.
الانسحاب من أفغانستان أثار قلقاً دولياً كبيراً لدى كل دول العالم، ولكن تحديداً لدى حلفاء أميركا الكبار حول العالم ومنها بريطانيا والدول الأوروبية، ودول العالم الكبرى ما زالت تتلمس مواضع أقدامها من التأثيرات الكبرى والممتدة لهذا القرار على الواقع المعيش اليوم وعلى المستقبل في المديين القريب والطويل، وأكثر الدول التي أثار قلقها ذلك الانسحاب هي الدول المسلمة بطبيعة الحال، وهذا أمر طبيعي ومؤشر على الوعي العميق بالآثار التي ستترتب على ذلك الانسحاب وسيكون على هذه الدول مواجهتها.
وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في زيارته الأخيرة للهند، تحدث بصراحة مع صحيفة «الهند اليوم» عن أن بلاده لا علاقة لها بحكومة طالبان الجديدة، وأن عودة تنظيمي القاعدة وداعش وطالبان في أفغانستان مصدر قلق حقيقي.
فرنسا واحدة من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وهي حليف وثيق الصلة بأميركا منذ الحرب العالمية الثانية مروراً بالحرب الباردة، وصولاً إلى النظام الدولي الجديد ما بعد سقوط وتفكك الاتحاد السوفياتي، وهي رأت في «أزمة الغواصات» أنها «طعنة في الظهر» من أقرب الحلفاء، وقد صعدت فرنسا موقفها السياسي لدرجة سحب السفراء، والتعبيرات الدبلوماسية غير المسبوقة وغير المعهودة في علاقات الحلفاء من قبل الفرنسيين، وهذا يؤشر بوضوح على خلل كبير وغير متوقع لم يحسب له حساب حدث. وسعت الدول الثلاث أميركا وبريطانيا وأستراليا سعياً حثيثاً لأمرين: الإصرار على إتمام «الحلف الجديد» والسعي لاحتواء الموقف الفرنسي.
لئن كان ما جرى في أفغانستان مثيراً حقيقياً للقلق فإن ما جرى مع فرنسا لا يقل عنه إثارة للقلق والمخاوف المشروعة، فالتاريخ يعلمنا أن الإمبراطوريات الهابطة لا تتخلى عن حلفائها فحسب، بل قد تطعنهم في الظهر، وقد جرى هذا من قبل على طول التاريخ وعرض الجغرافيا.
هذه السياسة الأميركية ليست مفاجأة، ولم تحدث بين عشية وضحاها، بل هي امتداد لثلاث فترات حكم ، تحدث فيها أوباما صراحة عن «الانسحاب» و«الانعزال» عن العالم وطبقها في عدد من السياسات والقرارات وظهرت آثارها جلية في الملف السوري و«الاتفاق النووي» مع إيران وغيرها، ومع الإدارة الجمهورية زمن ترمب والحديث عن «أميركا أولاً»، بغض النظر عن تفاصيل الخلافات الحزبية الداخلية الأميركية، وما يجري اليوم في إدارة بايدن هو استمرار لتلك السياسة وذلك التوجه.
الذي يثير القلق هو أن ما جرى في أفغانستان سيجري في غيرها وإن اختلف في الحجم والتأثير والظروف بحكم طبيعة الأشياء، وما جرى مع فرنسا سيجري مع غيرها، والمقصود بهذا السياق هو محاولة الفهم والتحليل من دون أي أحكام معيارية بالتأييد أو الإدانة فذلك شأن آخر.
الخطر الأصولي الواضح والظاهر يعبر عن نفسه بمشاهد فاقعة ألوانها، صاخبة أصداؤها، فإعدامات الحوثي الجماعية بما فيها إعدام الأطفال، ومشاهد التعذيب والإعدام للرجال والنساء تأتي من أفغانستان، وميليشيات إيران تعيث فساداً في العراق وسوريا، والسودان الذي لم يستقر بعد يشهد محاولة انقلابية وتصدعاً في التحالف المدني العسكري، وجماعة الإخوان التي حكمت لثلاثة عقود هناك لم تختفِ بين يوم وليلة ولن تنتهي في المدى المنظور، وظواهر الأشياء لا تخدع إلا متدني الذكاء الذي لا يحسن الغوص في أعماقها.
هناك محاولات متكررة للتعمية وخداع الوعي تجاه ما جرى في أفغانستان وما جرى مع فرنسا، وذلك بالتركيز على بعض التفاصيل غير المهمة حيناً أو ببعض التبريرات الباردة التي تركز على مبادئ عامة لا علاقة لها بضخامة الأحداث وتغيير الاستراتيجيات ومفاجأة القرارات وتهميش الحلفاء أحياناً.
الكاتب والمحلل السياسي ليس صانع قرار، فليس لكلماته تبعات تستدعي مواقف وقرارات سياسية للدول، بل مهمة الكاتب هي الرصد والوصف والقراءة والتحليل، وحين يرتبك الكاتب في عرض موقفه بين المقامين، مقام الكتابة ومقام صناعة القرار فإن طرحه قد يدخل في تزييف الوعي وتضليل الرأي العام وإن بشكل غير مقصود أو متعمد .
أميركا ليست أقوى دولة معاصرة فحسب، بل هي أقوى إمبراطورية عرفها التاريخ، وبالتالي فقراءة سياساتها واستراتيجياتها أمر ضروري وبالغ الأهمية، ورصد التغييرات التي تطرأ عليها ليس ترفاً بأي حال من الأحوال، بل هو ضرورة، ومن المهم التأكيد أن أميركا ستبقى في المستقبل القريب والبعيد دولة عظمى وقوية ومؤثرة على العالم أجمع، ولئن كان من الطبيعي أن تتغير وتعيد حساباتها بين فترة وأخرى، فلا يقل أهمية أن تتمكن دول العالم من رصد تلك التغيرات وقراءة مآلاتها وتأثيراتها فهذه - أيضاً - ضرورة.
بسبب هذه القوة وهذا التأثير فإن الشأن الأميركي ليس شأناً داخلياً يعني المواطن الأميركي، بل هو شأن دولي وعالمي جديرٌ بالمتابعة والرصد والتحليل، ومن ذلك الخلافات بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وقراءة الانشقاقات أو التغييرات داخل كل منهما، وصعود اليسار الليبرالي وتأثيره على الحزب الديمقراطي مهم، ورصد التيار الأكثر يسارية الذي يمثله بيرني ساندرز وأنصاره داخل الحزب الديمقراطي لا يقل أهمية، وبالمثل فالتغييرات التي حدثت وتحدث في الحزب الجمهوري مهمة ومؤثرة.
أخيراً، فقراءة أو نقد السياسية الأميركية ليس موقفاً ضد الحضارة أو الدولة أو الأمة الأميركية بل هو محاولة للفهم والتعامل، وفي التاريخ عبر ودروس.