عادة ما ننبهر بما وصلت إليه الأمم والشعوب من تقدم ونمو هائل، وهذا أمر طبيعي نتيجة ما يرغب الإنسان في تحقيقه والوصول إليه، لكن على الرغم من ذلك يجب علينا أن نبني تصوراتنا عن هذا البلد أو تلك الأمة بصورة كُلية غير مجتزأة، فما يبدو لك جميلًا على الشاطئ قد يختلف إذا ما دخلنا إلى عمق المحيط وواجهتنا الأعاصير.

في ضوء المتغيرات العالمية وتسارع الأحداث، فإن قراءة التاريخ لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن سياق الأمن القومي الثقافي والاجتماعي والاقتصادي بل حتى السياسي، لذلك فإن أحد المسارات التاريخية التي من المهم التركيز عليها من قبل الحقول الثقافية والمعرفية والعلمية، هو إعادة قراءة تاريخ دول شرق آسيا، المتمثلة في "الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وكوريا الشمالية، ومنغوليا، وماكاو، وتايوان"، التي تتشابه جميعها من حيث البنية الثقافية والدينية والعرقية.

ولأن "الحقائق لا تموت" حتى لو تم طويها عمدًا، سيأتي عليها وقت وتظهر، وتلك سُنة الحياة التي أدركتها الدول فعملت على إظهار ما أخفته بنفسها، ورغم ذلك مازال بعضها يظّن أن بإمكانها الانتصار عليها، مثل دول شرق آسيا التي تتصدر المشهد الآن، فعملوا على تصدير صورة ذاتية عنهم بشتى الوسائل على أنهم "دعاة سلام"، لكن البدايات التاريخية لا تسير وفق هذا النمط على الإطلاق.

ظهرت الحضارة الصينية منذ نحو 1500 عام ق.م، قبل ظهور حضارات شرق آسيا الأخرى، لذلك مارست السلالات الصينية تأثيرًا ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا هائلاً على شرق آسيا لأكثر من ألفي عام.

خذ مثلاً عملاق الشرق الكبير "الصين"، التي لم تخلو حقبة فيها من الدماء، وتاريخها يبدأ في الفترة من (475-221) قبل الميلاد، والتي كانت مقسمة في ذلك إلى سبع ممالك متحاربة، كل مملكة تسعى إلى توسيع أراضيها ونفوذها على حساب الأخرى بالقوة العسكرية، لذا ارتكبت تلك الممالك على مدى قرنين أبشع المجازر الدموية، إذ كان القتل على الهوية، وعلى ضوء ذلك وصل عدد القتلى إلى الملايين، ومن هنا سنعرف سبب توجه مدارس الفكر الفلسفي الصينية نحو تعزيز فكرة "السلام"، والذي جاء نتيجة أهوال الحروب الموجعة التي فتكت ببني بشرهم.

وحتى بعد توحيد الصين وانتهاء الحرب، لم تهدأ الحروب، فمع بداية القرن العشرين، أعادت الصين الكرة مرة أخرى، إذ خاضت حربًا ضد اليابان 1937 في أعقاب حادثة عُرفت بـ"جسر ماركو بولو" استمرت 8 سنوات، خلفّت قرابة مليون قتيل صيني، لكن المثير أن من قتلهم لم يكونوا من أعدائهم بل من قادتهم، فمع تقدم اليابانيين، أصدر الزعيم الصيني شيانج كاي شيك أوامره بهدم السدود الترابية على النهر الأصفر أو هوانغ هو - ثاني أطول أنهار الصين بعد نهر يانغتسي، وسادس أطول أنهار العالم- لإغراق المنطقة بالكامل، أما ضحايا الحرب "الصينية - اليابانية"، فنتج عنها 29 مليون قتيل.

ولم تختلف اليابان كثيرًا عن المسار الصيني، ففي القرن الثامن عشر، أقدمت هي الأخرى على احتلال الإمبراطورية الكورية -قبل انقسام شطريها إلى جنوبي وشمالي- فارضة عليها اتفاقية "كانغهوا"، وأصبحت بموجب ذلك محمية يابانية، وحُكمت بشكل غير مباشر من طرفهم عن طريق الجنرال المقيم في كوريا، ولم تنتهِ هذه المأساة إلا بعد هزيمة الإمبراطورية اليابانية واستسلامها إبان الحرب العالمية الثانية في الثاني من سبتمبر 1945.

وبالتزامن مع ذلك كانت اليابان تقود جرائم أخرى، ففي عام 1937 أقدمت على قتل 250 ألف صيني في مدة لا تزيد على 6 أسابيع، وحتى في الحرب العالمية الثانية، لن تختلف الصورة كثيرًا، ومحاولة إظهار نفسها في موقع الضحية، إلا أن المصادر تشير إلى أنها هي من بادرت بمهاجمة الأسطول الأميركي في قاعدته البحرية بميناء "بيرل هاربر"، في السابع من ديسمبر 1941.

خلاصة القول، وارتكازًا على الأبعاد أعلاه، تظهر لنا حقيقة ظاهرة للعيان كوضوح الشمس، وهي أنه كلما حاولت الصين طرح فكرة "السلام التنموي" -أوضحت ذلك في مقال نشر في مايو 2020- لحقتها اليابان، وهما تفضلان الحديث عن التنمية الاقتصادية والتكنولوجية والصناعية والمستقبل بعمومه؛ لأنه بشكل مختزل لا يمكنها العودة للوراء، وإلى زمن الحروب والاقتتال، وهو جوهر "التغيير التاريخي" الذي لن تستوعبه الأطراف الأخرى إلا بطريقة استكشافية تساعدنا على بلورة تصوراتنا عن أي أمة كانت.. دمتم بخير.