المقالة الصحفية السياسية تختلف عن البيان الصحفي الرسمي وعن الخطاب الجماهيري، وعندما تقع المقالة في فخ لغة البيان أو الخطاب فإنها تخسر موضوعيتها ومصداقيتها، لأنها تستند إلى العاطفة والمبالغة أكثر من المعلومة الصحيحة والمعرفة الحقيقية، لكن كتاباً كثيرين يتخلون عن موضوعيتهم ويكتبون بحماس وطني أو عاطفي. ولن ندخل هنا في نوايا الحماس إن كان صادقاً أو منافقاً، لكن الحماس في حد ذاته لا يصلح لإنتاج مقالة سياسية تحليلية تصلح لتكون مرجعاً فكرياً، لأنه يخبئ الحقيقة ويموّه المعطيات في سبيل الانتشار الجماهيري واستدراج التصفيق.
ولا شك أن معظم الاستراتيجيات الإعلامية السياسية العربية فشلت بسبب طمس الحقيقة عن الإعلام والناس في ما يتعلق بصراعها مع أعدائها، فكانت تجمّل الهزائم بوقائع كاذبة وتظهر منتصرة وهي مندحرة، حتى لا تثير غضب الناس وأحزانهم وتعمّق لديهم الاكتئاب الوطني، والبيانات السياسية والعسكرية التي كانت تصدر عن المؤسسة الرسمية منذ نكسة يونيو/ حزيران 1967، التي خسر فيها العرب أمام إسرائيل شبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية والضفة الغربية وقطاع غزة وغور الأردن، كانت تقول شيئاً بينما أرض المعركة كانت تقول شيئاً آخر، حتى إذا ما انتهت الحرب بانت النكسة والهزيمة والضحايا والخراب.
وبعد 43 سنة كرّرت بعض الأنظمة، لاسيما تلك التي شهدت ما يسمى «الربيع العربي» الاستراتيجية ذاتها، وكانت النتيجة أن التنظيمات المتشددة كانت قد سيطرت على مساحات شاسعة من أراضي تلك الدول في الوقت الذي كانت البيانات تخفي مكاسب التنظيمات والعصابات المتشددة، حتى استفاق الناس على إمارات إسلامية هنا وهناك، وخسائر بآلاف الجنود. والأمر ذاته حصل في اجتياح لبنان في عام 1982 ووصول الدبابات الإسرائيلية إلى بيروت.
وعلى الرغم من فشل الخطابة والحماسة والتسطيح السياسي وإخفاء الحقائق، لا يزال هناك من يبيع الوهم للناس، ويعدهم بالانتصار الوشيك، ويحلل بطريقته التهليلية التي تعتمد على الهتاف الشعاراتي، أعقد قضية في العالم وهي أزمة الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي. وها هو أحدهم يخاطب نفتالي بينيت، رئيس الوزراء الإسرائيلي رداً على تصريح الأخير بأن هضبة الجولان إسرائيلية ويقول: «ما لا يدركه بينيت، وكل حلفائه في المعسكر اليميني الإسرائيلي العنصري التوسّعي المتطرّف، أن الظروف التي مكّنت دولته من احتلال هضبة الجولان قبل 55 عاماً غير الظروف الراهنة، سياسياً، وعسكرياً، وعربياً ودولياً أيضاً..»، وهذا يعني أن الظروف الآن لصالح العرب، لأنهم في حال أفضل، خاصة وأن (محور المقاومة) يمتلك الصواريخ والغواصات، وأن إسرائيل ترتعد من صاروخ قد يأتي من هنا وهناك.
ونحن نقول إن الظروف الآن أسوأ بكثير من عام 1967، فالجيوش التي حاربت «داعش» وأخواتها منهكة الآن، ناهيك عن أنها لم تحارب وحدها، إضافة إلى أن الجبهات الداخلية غير مستقرة جراء النزاعات الطائفية والمهجّرين والدمار الذي لحق بالحجر والبشر، ومعرضة لهزات إذا ما عادت التنظيمات المتشددة والإرهابية إلى الظهور، وهي لم تختف من الوجود حتى الآن.
نحن لسنا فرحين بما أوردنا؛ بل يحزننا أن يكون الواقع مناف لما ذكره هذا المحلل، لكن هذا الخطاب لم يعد مجدياً للمحافظة على المعنويات والصمود، ونحن لا نطالب برسم صورة سوداوية للواقع الراهن، لكن قول الحقيقة أفضل من طمسها، ومصارحة الشعوب أفضل من الكذب عليها، والدعوة إلى التخلص من العيوب ومظاهر الهزيمة أفضل من (الطبطبة) عليها.
جميل بث الأمل في الناس، وجميل تحفيز معنوياتهم، لكن ليس بالقفز عن الحقائق والوقائع، وليس بغض الطرف عن مواطن الضعف في الجبهة الداخلية، والتغني بإمكانيات عسكرية وسياسية ونفسية ومادية غير موجودة، والأجدى أن يدور الحديث عن كيفية النهوض من الكبوة، وإعادة بناء القوة، ويكفي تخدير الشعوب بلغة أكل الدهر عليها وشرب.