منذ سقوط نظام بعث العراق في التاسع من شهر أبريل من العام 2003 إثر وصول الجيش الأميركي ودخوله بغداد، أدرك الشق الآخر من البعث في سوريا أن ساعة الحسم قادمة إليه لا محالة، والمسألة مجرد وقت وحسب.

عندها قرر القائمون على رأس النظام السوري أن أفضل وسيلة لمنع قيام دولة ديمقراطية تقضّ مضاجع سلطتهم في دمشق، إثر التهاوي الدراماتيكي لنظام الحزب الواحد والرجل الأوحد في بغداد، تكمن في تفخيخ إمكانية حدوث هذا التغيير الجذري في منظومة الحكم في الجوار العراقي بعنصر التطرف الديني المسلّح، ذاك التطرّف الذي تحوّل شيئاً فشيئاً إلى ظاهرة معولمة للإرهاب عمّت بشرورها وبشاعتها الكرة الأرضية.

ظهور أبومصعب الزرقاوي وتأسيسه لما سُمّي “جماعة التوحيد والجهاد” في العام 2003، تلاه إعلانه البيعة لزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في العام 2004 وتغيير اسم جماعته إلى قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين التي عُرفت في ما بعد بتنظيم القاعدة في العراق ثم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش). تلك الأحداث مجتمعة لم تكن سوى متوالية لعقل مخابراتي دبّر في ليل تقويض أية محاولة للتغيير الحقيقي المنشود في العراق المبني على أسس حكم الشعب وسيادة القانون، وذلك مخافة أن تنتقل عدوى الديمقراطية من بغداد إلى دمشق بدعم قوات التحالف التي كانت تقودها الولايات المتحدة.

معاملات نظام الأسد التجارية مع داعش لم تقتصر على النفط والغاز، بل قام النظام بشراء وبيع الحبوب من المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم عن طريق رجال أعمال ينتمون إلى الدائرة الضيقة المحيطة ببشار الأسد

من نافلة القول إن ظاهرة دعم التطرف الديني والميليشيات الخارجة على القانون، وكذا إذكاء الطائفية السياسية، إنما هي تقليد متجذّر في آليات شبكة من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية نسج خيوطها حافظ الأسد منذ سبعينات القرن الفائت، مخلّفاً إرثاً ثقيلاً في ملف الإرهاب يهدف إلى خدمة استمرار الأنظمة الشمولية التي أعظم مثال لها هو نظام الأسد (الأب والابن)، وقد شارف حكمهما نصف قرن من السنوات العجاف من عمر سوريا والسوريين.

ومع اندلاع الثورة السورية في ربيع العام 2011، استشعر النظام الحاكم في دمشق مخاطر القادم، ولجأ فوراً إلى الخطة البديلة الجاهزة في إصداره مراسيم عفو عن السجناء متلاحقة بتسلسل زمني مدروس، وقد خصّ إطلاق المتشددين من المعتقلات، في حين احتفظ بعشرات الآلاف من معتقلي الرأي من أصحاب القلم والفكر الحر. وليس المرسوم الصادر عن رأس النظام السوري، والذي حمل الرقم 61، إلا نموذج أوّلي لسلسة من القرارات الرئاسية استهدفت إطلاق سراح المتطرفين حصراً من السجون تزامناً مع انطلاق حراك الثورة. فالنظام كان يرى في هذه المجموعات لغماً يرميه لينفجر في التظاهرات المدنية والسلمية، يرعب به قلوب وعقول العالم الحر الذي بدا داعماً قوياً لحركات التحرر التي جابت العالم العربي في ذلك العام وفي مقدّمتها سوريا.

فمنذ إعلان النظام المبكّر من العام الأول من الثورة عن عمليات إرهابية نوعية نفذها ما أطلق عليه في إعلامه الحكومي تنظيم “النصرة”، وكان أولها حادثة تفجير حافلة نقل ركاب مدنيين في منطقة جسر فيكتوريا بدمشق، بدأ التئام العقد المسموم لخلايا الإرهاب المتنقلة بين العراق وسوريا في تنظيم داعش.

أدار النظام السوري اللعبة بامتياز ليخيّر العالم بين استمرار حكم بشار الأسد أو تقدم المجموعات الجهادية المتطرفة نحو دمشق، هادفاً إلى إقناع المجتمع الدولي أن البديل لحكمه هو الإرهاب وحسب. فإما هو وإما المتطرفون، وعلى العالم أن يختار حيث لا خيار ثالثا، نافياً بهذا التكتيك حقيقة الحراك السلمي للثورة التي رفعت سواعد شبابها في باكورة مظاهرات دوما وداريا زهور القرنفل وليس السلاح كما فعل.

شكّل تنظيم داعش وأخواته من المنظمات الإرهابية المتطرفة التي تدّعي انتصارها للدين والثورة وكلاهما منها براء، وخلال معظم الحالات الميدانية، ظهيراً للنظام وداعماً لاستيلائه على الأراضي التي حررها الجيش الحر. وكان هذا الجيش قد شكّل في السنوات الأولى من عمر الثورة الذراع العسكرية لقواها السياسية، وقوامه كان ضباطاً انشقوا عن الجيش النظامي لدعم الحراك المدني الشعبي والدفاع عن المدنيين الذين كانوا في مرمى رصاص ميليشيات النظام.

في غير مكان بدا جلياً أن داعش يتخذ إجراءات تخدم مصالح النظام في دمشق. وفي أبرز واقعة ميدانية تُثبت هذا التواطؤ جاء انسحاب مقاتلي داعش في شهر يوليو من العام 2014 ممهداً الطريق لحصار الجيش الحر من جهات ثلاث وتطويقه إلى أن سقطت الضاحية الشمالية لحلب بيد الجيش النظامي دونما قتال.

مع اندلاع الثورة السورية في ربيع العام 2011، استشعر النظام الحاكم في دمشق مخاطر القادم، ولجأ فوراً إلى الخطة البديلة الجاهزة في إصداره مراسيم عفو عن السجناء متلاحقة بتسلسل زمني مدروس، وقد خصّ إطلاق المتشددين من المعتقلات، في حين احتفظ بعشرات الآلاف من معتقلي الرأي من أصحاب القلم والفكر الحر

أما معاملات النظام التجارية مع التنظيم الإرهابي، فحدّث ولا حرج، وقد جنّد رجال الأعمال من الوسطاء المتعاملين مع الأجهزة السورية جلّ إمكانياتهم وخبراتهم للتعامل مع داعش في المناطق التي كان يسيطر عليها. بدأ هذا التعاون في العام 2014 حين سيطر التنظيم على منطقة دير الزور في شرق سوريا، وبالتالي وقعت في يديه معظم ثروة البلاد النفطية، ووصل دخله من حقول النفط العراقية والسورية ما قدّر في حينه بثلاثة ملايين دولار يومياً.

لم تقتصر معاملات نظام الأسد التجارية مع داعش على النفط والغاز، بل قام النظام بشراء وبيع الحبوب من المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم عن طريق رجال أعمال ينتمون إلى الدائرة الضيقة المحيطة ببشار الأسد. والأخطر من هذا كله أن النظام السوري عمل بدأب على تيسير معاملات داعش المالية من خلال شبكات غير قانونية. وفي العام 2019، توصلت وزارة الخزانة الأميركية إلى تحديد هويات سلسلة من الميسرين الماليين وشركات خدمات الأموال التي كانت تمكّن أنشطة داعش في سوريا وخارجها. أما الحكومة في دمشق فلم تتخذ أي إجراء ضد هؤلاء الوسطاء الذين استمروا في العمل دون تضييقات تُذكر.

فصل المقال يكمن في ماهيّة وشكل التحالفات التي سيعتمدها نظام الأسد إثر انحسار تنظيم داعش كقوة اعتمد عليها مرحلياً لتمكين استمراره وبقائه في سدّة الحكم، ولاسيما وهو يعود شبه “منتصر” إلى الساحة العربية، وقريباً العالمية.

وبعد أن ذهبت دولة الإرهاب الداعشي وبقي إرهاب الدولة، هل سيكون العالم أكثر أمناً من الإرهاب العابر للحدود؟ بل هل سيعود الملايين من السوريين من أرض الشتات إلى مسقط الرأس إذا قرر العالم تعويم الأسد من جديد؟