إن أسواق العرب لم تكن على ما هي عليه من مفهوم السوق في يومنا هذا، وإنما كانت حياة زاخرة وعيشا متنوعا بين اللذة والشقاء!

ففيها صناعة وتجارة وعادات وتقاليد ومجالس أدبية وبلاغة نثرية وشعرية وتنفيذ أحكام وإشهار علاقات وتحالفات وقطعها. فالأسواق العربية القديمة كنز لا ينضب معينه من كنوز تاريخ العرب، ومعلَم من معالمه المتوارثة في تكوين الشخصية العربية وفي تأثيرها على العالم، فالشخصية العربية شخصية تجارية حيث إن العرب تجار وسماسرة، وقوم تجارة، وبيع وشراء، ولذلك لم يكونوا أمة حرب لا في البر ولا في البحر، بالرغم من أن العرب كانوا يتحكمون في مراكز التجارة العالمية لما لموقعهم من أهمية كبرى، ولما للعربي من خبرة في دروب الصحراء والتي لا يستطيع أحد أن يفك شفرتها سواه، وأيضا لما له من أخلاق ومبادئ واحترام للمواثيق العالمية، وهو ما يقره غيرهم في هذا الشأن.

ومحطات التجارة العظمى المنتشرة في جزيرة العرب متعددة ما ينفك أن يغلق سوق حتى يُفتح الآخر مثل سوق حضرموت وسوق عكاظ وسوق ظفار وصنعاء وتيماء وبصرى وتدمر ودمشق، إلا أن لقريش الزعامة في هذا الشأن، فكانت في تلك الحلبة التجارية هي المجلية، فقد قبضت على مخنق العرب واستأثرت بالمتاجر أو تكاد.

ولذا جاء اسمها قريش وهو يرجع إلى اسم دابة صغيرة عند اليونان (ليوسوس) وهي تصغير لكمة (القرش) وهي دابة عظيمة تكون في البحر المالح، ولهذا سميت قريش بهذا الاسم (قريش) نتاج "تقرشها" على القبائل وحول الكعبة وعلى التجار والتجارة، يقول فيها الشاعر:

وقريش هي التي تسكن البحر

بها سميت قريش قريشا

فيه لذي جناحين ريشا

وهكذا في البلاد شأن قريش

ولنا أن نتساءل: ما المواد التي ترد في تلك الأسواق؟ وما احتياجاتهم فيها؟ فيقول أحمد الأفغاني في كتابه "أسواق العرب" العروض التجارية التي كانت تحمل إلى تلك الأسواق، أكثرها لا يتعدى التمر والزبيب والسمن والأدم والورس والغالية والبرود، وبعض ضروب الحيوان كالمواشي والأنعام والخيل حتى القرود أحيانا، وكانت سوق هجر أشهر البلدان بتمرها وعُمان يحمل إليها الورس ويعالج فيها، وكانت لطائم كسرى تأتي كل سنة فتباع ويشترى بأثمانها الأدم والتمر، وكان لا بد لها من حامٍ منيع الجانب عزيز القبيل ليجيرها على عامة القبائل وباعته ورواده، بل كان سوقاً ينتقل بين الأسواق المعروفة والمرتادة بين العرب، فقد "كان العرب في الجاهلية يقيمون أسواقهم في كل شهور السنة وينتقلون من بعضها إلى البعض، ويحضرها سائر العرب، من قرب منهم ومن بعد، فكانوا ينزلون دومة الجندل، وربما غلب على السوق بنو كلب فيقيمون سوقهم إلى آخر الشهر، ثم ينتقلون إلى سوق هجر في شهر ربيع الآخر، فيقام سوقهم بها، وكان يعشيهم المنذر بن ساري أحد بني دارم، ثم يرتحلون نحو عُمان والبحرين فيقيمون سهما بها، ثم يرتحلون فينزلون أسواقهم بها لأيام، ثم يرتحلون فينزلون عدن أبيّن فيقيمون سوقهم بها".

وفي هذا السوق تنهال التجارة من كل مكان، لقربه من باب المندب، ولكونه طريق التجارة من الهند وشرق آسيا نحو الشام وتركيا وباقي دول أوروبا.

وفي هذا الموضوع -الذي له كثير من التفاصيل التي يصعب سردها في هذا المقال- يتبين لنا قوة هذه المنطقة كقوة اقتصادية كبيرة كانت ولا تزال هي المتحكم في شأن الاقتصاد العالمي، والذي نعتبره إرثا موروثا لأبناء الجزيرة العربية، فهي عنق الزجاجة العالمي الذي يتدفق منه الخير أو يشح لكل بلاد الله حتى يومنا هذا!

وبما أن اليوم ليس كالبارحة، لما طرأ على العالم من تطور في الأسواق ولما حتمته العولمة الاقتصادية نجد أنها -برغم هذا التطور وهذا التاريخ الاقتصادي الحديث- لا تزال هي المرتكز لكل الاقتصاد العالم ونعدها نعمة من الله سبحانه وتعالى وهبة منه لهذه الأرض ولأهلها؛ ومن هذه الأسواق العالمية اليوم هو سوق الطاقة والتي تهز أرجاء الأرض في كل حين نحو الغلاء أو الرخاء العالمي.

وفي هذا الشأن -وهو شأن سوق الطاقة العالمي الذي يحوط العالم جله بين راحتيه- نجد تصريحا أو تخويفا أو إنذارا من الرئيس البولندي في خطاب له، حيث يقول: نحن على شفا أزمة في الطاقة، فالأزمة قد تهز أوروبا وبعض الأسر ستتعرض للفقر بسبب التضخم المصاحب للأزمة الطاقة والذي سيتسبب في ارتفاع الأسعار غير المتوقعة في العالم كله.

والغريب في الأمر أن الأسواق التي ذكرناها والتي كانت تتحكم في الاقتصاد العالمي نجد اليوم أسواقا فضائية، حيث نجد الآن وكالة ناسا ترصد تحركات السفن في كل البحار وفي كل الموانئ لأنها في نفس الوقت ترصد الانبعاثات الكربونية، فيتبين لها أن حجم المراكب الواقفة في الموانئ العالمية بشبه واقفة، ومن هنا فناسا تريد أن تقول لنا إن العالم كله مقبل على فترة ركود كركود تلك السفن في كل المرافئ الدولية بسبب أزمة سوق الطاقة الذي جن جنونه (بحسب قول أحد المحللين) وإلى أنه من المتوقع أن يصل سعر البرميل في أيام الشتاء المقبلة إلى مئة دولار مما ينبئ بأزمة اقتصادية عالمية مقبلة!

وفي هذا الربط بين هذا وذاك من الأسواق العربية نرى أن لها ذلك الأثر العظيم قديما وحديثا، ليس في عملية التبادل التجاري فحسب، وإنما كانت مهرجانات ومؤتمرات وقرارات في التقلبات الدولية والمحلية والإقليمية حتى يومنا هذا، كما أنها كانت عاملا كبيرا في نقل الحضارات والثقافات واللغات وكل ما يصوغ الشخصية بكل جوانبها، كما أن للبعد السياسي عاملا كبيرا فاعلا في هذه الأسواق.