لعل استعراض منطقة واسعة بحجم وتنوع وثراء منطقة القصيم في مقال أو أكثر يكون عرضة لإغفال جانب من جوانب هذه المنطقة أو بعض مشاهدها وتفاصيلها خاصة وأن منطقة القصيم ذات ثراء وتنوع وتوسع لا حد له، ومركز لحركة تجارية وزراعية كبرى. فسرُّ تقدم هذه المنطقة يكمن في موقعها الجغرافي ومركزها الحضاري وواقعيتها وفكرها العصامي وقبل ذلك أفكار الأمير الدكتور فيصل بن مشعل الخلاقة واستراتيجيته التطويرية ونقلاته النوعية. لقد فعل ما كان بوسع قائد نموذجي ملهم أن يفعله، فقد كانت لديه القدرة على الابتكار واستبصار الحقائق ومهارة الإنجاز. فقد كان يتنقل في رحلة ميدانية ما بين مدن وقرى وهجر القصيم، لفتح آفاق جديدة للتطوير وإحداث فارق نوعي في النتائج فقد كانت لديه المهارة الفائقة في رفع المعنويات والمهارات وتحفيز الأداء وقد حققت زياراته الميدانية فارقًا نوعيًا في الأداء والإنتاجية.

فالأمير الدكتور فيصل بن مشعل بعيد النظر عميق التفكير واسع الاطلاع، قدم إنجازات باهرة ومتلاحقة وكان القوة الدافعة وراء تفوق القصيم. وهذا ما مكّن منطقة القصيم من أن تحتل مكانة متقدمة، فالقصيم ليست مجرد منطقة عادية، بل مشاركة حقيقية في صنع الحياة الاقتصادية، تداخلت مع الاقتصاد من أوسع أبوابه وكان لها حضورها الواسع في المجتمع الاقتصادي.

هنالك حقائق كثيره تتكشف لنا من حياة القصيم المتطورة ولكن قد يكون من العسير علينا أن نقف على كل مظاهر الحياة في القصيم، فالوعي والوفرة المادية مكنت القطاع الخاص من إحداث تحولات كبرى ونقلات نوعية في منطقة القصيم. فعندما يكون الوعي الخيط الناظم لحركة المال تكون النتائج حقيقية وواقعية ومشاهدة وهذا ما نلحظه في القصيم ويعكس أبرز الصفات الظاهرة في مجتمع القصيم الاقتصادي. فعندما ننظر مثلاً إلى منظومة الراجحي الاقتصادية (والتي هي وقف الآن) ونطلع على واقع هذه المنظومة على مستوى القصيم والتي لم تكن ذات بعد واحد تبدأ معنا قصة العالمية. فقد قلنا قبل ذلك -وهذه حقيقة- أن مزرعة الراجحي أكبر مزرعة نخيل في العالم، والآن نقول إن دواجن الوطنية أكبر منشأة ومزرعة دواجن في العالم -وهذه حقيقة أخرى- فقد زرتها بدعوة من الدكتور محمد بن سليمان الراجحي وأمضيت فيها يوماً كاملًا ولم أتمكن لضخامتها إلا من مشاهدة أجزاء منها. واليوم دواجن الوطنية مدينة متكاملة ينظر لها عالميًا كأكبر كيان لإنتاج الدواجن والبيض في العالم، وعندما نغادر دواجن الوطنية في عيون الجواء وننتقل إلى البكيرية تبدو لنا مدينة سليمان الراجحي الجامعية (جامعة سليمان الراجحي) كصرح تعليمي متكامل يقدم تجربة تعليمية متقدمة بمعايير عالمية تبهرك الجامعة بمبانيها الفخمة وقاعاتها وردهاتها، فكل مظاهر الحياة الأكاديمية تتمثل في هذه الجامعة العريقة معاملها، مختبراتها، مكتباتها، برامجها الدراسية. والتي وضعها اختصاصيون في الحقل الأكاديمي، تمتاز جامعة سليمان الراجحي على مثيلاتها بثلاثة فروع اختصاصيية كلية سليمان الراجحي للأعمال، وكلية الطب وكلية العلوم التطبيقية. لا شك بأن الجامعة إنجاز حضاري فريد جسده الشيخ سليمان الراجحي إيمانًا منه بدور التعليم في اكتساب المعرفة والخبرات والمهارات العلمية الحديثة.

ونستكمل عقد التعليم في البكيرية بمدارس مناهل البكيرية التي شهدنا فيها حفلاً تكريمياً لأعضاء هيئة التدريس والطلاب المتفوقين أعقبه حفل عشاء. ومدارس مناهل البكيرية التي أسسها حسن بن منصور الراجحي عام 1440 بيئة تعليمية نموذجية تستخدم التكنولوجيا الحديثة في مناهجها التعليمية وذلك لإيجاد جيل قادر على مواكبة النهضة التكنولوجية. وتوفر المدارس المعامل والمختبرات المتطورة كمختبرات العلوم التطبيقية ومعامل الكيمياء والفيزياء والأحياء والحاسب الآلي. ويوجد في المدارس قاعة مصادر التعليم المكتبات الورقية والإلكترونية. كما تطبق المدارس نظاماً تعليميًا إلكترونيًا (كلاسيرا) يمكن المعلم من إظهار المهارات التعليمية بأساليب مختلفة ويساعد الطلاب على استيعاب المواد العلمية بمصادر متعددة، فالمدارس تقوم باستخدام أحدث الأساليب التكنولوجية والفنية وتطبيق المعايير العلمية.

وإذا كانت البكيرية ذات مدنية زاهية فإنها ذات تراث حضاري عريق فمقصورتا الراجحي والسويلم لوحات زاهية من الفن التراثي الحديث تجمع ما بين البهاء والنضارة وبالذات حين تلقي الفوانيس أنوارها على المقصورتين توحي لك بفن معماري أنيق.

وفي عنيزة كما في مختلف مدن القصيم الكبرى حياة اجتماعية وثقافية وعلمية راقية، فقد جمعت عنيزة بين المراكز العلمية والثقافية والمؤسسات التعليمية العريقة والصالونات الأدبية والديوانيات الاجتماعية. ما أسبغ على هذه المدينة الفريدة مدنية راقية، وحساً حضارياً فريداً، فمركز القصيم العلمي نافذة حضارية ومنصة إشعاع علمي لما حواه من كنوز علمية حديثة تتمركز فيه مختلف العلوم والكشوفات العلمية الحديثة، فهو بحق معقل العلم الحديث، وكنز المكتشفات وجدت فيه معلومات لم يسبق لي علم بها، فقد زرت مراكز علمية كثيرة ولكن مركز القصيم العلمي استأثر بإعجابي، فهذا الصرح العلمي والحضاري الكبير كان من نتائج الشراكة ما بين القطاع العام ممثلاً في وزارة التعليم والقطاع الخاص ممثلاً في مجموعة الزامل القابضة.

يضم المركز واحة عبدالله حمد الزامل وأكاديمية محمد الحمد الشبيلي العلمية وبإدارة فعالة من المشرف العام على المركز أحمد بن عبدالله الشبل والذي كرس وقته للمركز منذ كان فكرة، فالشبل نموذج من الإداريين الملهمين والمحنكين بالعلم والتجربة، ويحظى مركز القصيم العلمي بعناية ورعاية من محافظ عنيزة عبدالرحمن بن إبراهيم السليم والذي زرناه في مكتبه. تلك الشخصية الفذة التي تتحلى بالإنسانية وتتصف بالمبادرات والمواقف المضيئة. أحدث تحولًا حضاريًا نوعيًا في حياة عنيزة الحديثة وقام بدور بارز في تجديد مجتمع عنيزة الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ونقلَه إلى آفاق بعيدة. فقد كان عبدالرحمن السليم إنساناً متواضعاً حليم الطباع كريم الخلق رحب الصدر يتحلى بشخصية قيادية فريدة ينظر بعقل منفتح ويفتح آفاقًا جديدة للتطوير، قدّم نجاحات باهرة ومكن عنيزة من الوصول إلى الريادة والتميز فقد نقل أفكار الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز والتي كانت بمثابة خارطة طريق لمحافظة عنيزة، واليوم دخلت عنيزة مرحلة جديدة حققت تمدنًا وتحولًا نوعيًا باهرًا في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والحضارية والإنسانية.

غير أني قبل أن أودّع عنيزة أود أن أنقل مظهرًا آخر من مظاهر الحياة الاجتماعية في عنيزة، وهو أنه لا يمكنك أن تزور عنيزة بدون أن تستضيفك ديوانية الفهد السعيد والتي تعتبر معلماً اجتماعياً راقياً في عنيزة وتتمتع بحضور اجتماعي فريد وصورة من صور الكرم الحقيقي والتى رأيناها في المهندس عبدالله الفهد السعيد والمهندس يوسف الفهد السعيد. لقد تحولت مجموعة الفهد السعيد بفعل مآثرها ومبادراتها الاجتماعية إلى كيان ذي بعد اجتماعي وإنساني وتمكنت بفضل وسيلة السخاء الاجتماعي من أن تأخذ دورها القوي والحيوي في مجتمع عنيزة.