مثلت أميركا الجنوبية على مدى عقود، ساحة للمواجهة بين الاختيارات الرأسمالية المتوحشة والنزعات اليسارية والتقدمية، فبينما كانت الولايات المتحدة تعتبر دول المنطقة مجرد حديقة خلفية تدخل في مجالها الحيوي الاستراتيجي، وذلك منذ أزمة خليج الخنازير في كوبا، فإن جزءاً من النخب السياسية في المنطقة مثّل ذلك بالنسبة لها تحدياً وجودياً، أفرز ضمن سيرورة الصراع، سرديات خاصة بالتجربة النضالية في المنطقة، وعلى هذا الأساس عرفت بلدان أميركا الجنوبية مواجهات بين مشروعين سياسيين، واحد يمثل التبعية لواشنطن، ويمثل اليوم اليمين المتطرف امتداداً له، والثاني يمثل حركة تحرر وطني يمثل مزيجاً من الشيوعيين والاشتراكيين التقدميين والوطنيين، وقد بلغت هذه الحركة مستويات متقدمة من الهيمنة على مواقع الحكم والسلطة، حيث وصل اليسار مثلاً لرئاسة عدد من الدول كفنزويلا، البرازيل، البيرو... محققاً نتائج متباينة بين سياسات اجتماعية طموحة، وبين القدرة على مواجهة التحديات التي فرضتها الإدارات الأميركية المتعاقبة، بعد تجارب الانتقال الديموقراطي التي عرفتها المنطقة.

تمثل تشيلي تجربة مهمة للوقوف على مدى نجاح تجربة الانتقال الديموقراطي في أميركا الجنوبية أو نعثّرها، خاصة أن عملية الانتقال تمت في ظل عدم رضى أميركي، حيث خسرت واشنطن ديكتاتورها بينوشيه، بعدما اختارت تشيلي مدخل المصالحة الوطنية التي قامت على معالجة تجاوزات حقوق الإنسان والمصالحة وضمان عدم تكرار ممارسات الماضي. فقد عاشت البلاد جميع أشكال المعاناة مع السلطوية العسكرية لنظام بينوشيه الذي قاد انقلاباً عسكرياً دموياً على الرئيس المنتخب سلفادور ألليندي، وقد ذهب هذا الأخير ضحية رفضه تحول تشيلي إلى حديقة خلفية لواشنطن، وخاصة استنزاف خيراتها من معدن النحاس، فكان جزاؤه القتل وهو يدافع عن قناعاته ومواقفه، وظل إلى آخر لحظة يقوم بواجبه...

«سوف أدفع حياتي دفاعاً عن المبادئ العزيزة على هذه البلاد. العار سيجلّل أولئك الذين خانوا قناعاتهم، وأخلّوا بكلمتهم وتحوّلوا إلى عقيدة القوات المسلحة.

على الشعب أن يكون يقظاً، وألاّ يترك نفسه عرضةً للتحريض، وألا يقتل، لكن عليه أن يدافع عن مكتسباته. عليه الدفاع بعمله الخاص عن حقّه في بناء حياة كريمة أفضل. وبخصوص أولئك الذين "أعلنوا بأنفسهم" عن الديموقراطية كما يقولون، فقد تسببوا بالتمرد، وقادوا تشيلي إلى الهاوية بطريقة غير منطقية ومريبة. من أجل المصلحة العليا للشعب، وباسم الوطن، أحثّكم على الاحتفاظ بالأمل. التاريخ لا يتوقف، لا بسبب القمع، ولا بسبب الجريمة. إنّها مرحلة ينبغي تجاوزها، لحظة صعبة. ربما يسحقوننا، لكن المستقبل سوف يكون ملكاً للشعب، للعمال. الإنسانية تتقدّم نحو الحصول على حياة أفضل.

أيها المواطنون، من غير الممكن إسكات صوت المذياع، وسوف أستأذنكم. في هذه اللحظة، تمرّ طائرات فوقنا، وربما تقصفنا. لكن فلتعلموا أنّنا موجودون هنا لإظهار أنّ هناك أناساً في هذه البلاد يقومون بواجباتهم إلى آخر لحظة. أنا سأقوم بذلك، مفوّضاً من الشعب، وبصفتي رئيساً واعياً لكرامة ما أنا مكلّف القيام به».

هذه الفقرات هي من خطاب إذاعي لسلفادور ألليندي، الرئيس التشيلي قبل لحظات من قتله داخل القصر الرئاسي وهو يواجه انقلاب الجنرال بينوشيه سنة 1973.

لم ينته الفساد في تشيلي بنجاح تجربة الانتقال الديموقراطي، كما أن حالة الرضى العام على الأداء الاقتصادي لم تكن مثالية دائماً، رغم أن الاقتصاد التشيلي يحقق نجاحات مهمة مقارنة مع باقي اقتصاديات أميركا الجنوبية، لكن المهم في التجربة التشيلية هو ترسيخ الممارسة الديموقراطية، وجعل صناديق الاقتراع فيصلاً بين مختلف التيارات السياسية التي قبلت على الدوام بنتائج الانتخابات، ما عزّز شرعيتها ومصداقيتها. فقد غادرت مثلاً سنة 2018 الرئيسة التشيلية ميشيل باشليه موقع رئاسة الجمهورية التي قضت فيه ولايتين منفصلتين في حالة خاصة، الأولى امتدت من 2006 إلى 2010، والثانية من 2014 إلى 2018. مغادرة باشليه موقع الرئاسة شكلت لحظة خاصة، ودرساً بليغاً في الديموقراطية. ففي الوقت الذي كانت تتمدد فيه السلطوية في أكثر من مكان في العالم، غادرت باشليه كقديسة من زمن آخر، غمرتها القبلات والدموع والأحضان، بينما يغادر آخرون بضربات النعال والأحذية... ولعنات ترافقهم حتى بعد مماتهم.

قبل سنتين (2019) خلف قرار للحكومة التشيلية الرفع من الرسوم المفروضة على تذاكر المترو، النقطة التي أفاضت الكأس بالنسبة للشعب التشيلي، فخرجت تظاهرات واسعة في سانتياغو لم تتوقف رغم تراجع الحكومة عن تلك الرسوم، بل إن الرئيس التشيلي سيباستيان بينيرا، أقر بوجود خطأ في الرؤية الاقتصادية. ورغم أنه أعلن عن زيادة في المعاش الأساسي الشامل حوالي 20 في المئة، وتجميد الرسوم على الكهرباء واقتراح قانون يتيح للحكومة تحمّل تكاليف العلاج الطبي الباهظ الثمن، فإن التظاهرات لم تهدأ، بل استمرت موجهة سهامها في مواجهة الرأسمالية المتوحشة التي تعاملت دائماً مع أميركا الجنوبية كحديقة خلفية رعت فيها مختلف صنوف الديكتاتوريات العسكرية، بل إن المطالب بلغت حد المطالبة برحيل رئيس الدولة والحكومة احتجاجاً على المنظومة السياسية ككل وضد الفوارق الاجتماعية. ورغم أن الفرقاء السياسيين اتفقوا على عرض دستور جديد على الاستفتاء الشعبي، فإن المتظاهرين تشبثوا برفضهم مغادرة الشارع، لأن إجراءات الرئيس لم تقدم جواباً على الإشكاليات البنيوية التي تتعلق بالإفراط في السياسات الليبرالية، والتخلي عن دور الدولة في القطاعات الاجتماعية، وما نتج من ذلك من توسع في ثروات الأغنياء في مقابل تراجع الطبقة الوسطى ومستوى عيش التشيليين. وهذه التظاهرات التي بدت للبعض عابرة ونمطية، كانت في الحقيقة تحمل بذور مرحلة جديدة ستعرفها التشيلي، حيث برز في التظاهرات قائد سياسي شاب هو غابريل بوريك (35 سنة)، دخل عالم السياسة سنة 2013 ليعلن عن انتخابه قبل أيام كأصغر رئيس في تاريخ تشيلي. فقد حقق هذا الشاب القادم من نقابة الطلبة في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية 55.9 بالمئة من الأصوات، متقدماً على منافسه زعيم اليمين المتطرف خوسي أنطونيو غاست.

غابريال بوريك، يمثل نموذجاً لحيوية ودينامية الحياة السياسية في تشيلي، كما أنه يمثل نموذجاً يكسر الصورة النمطية التي يراد تعميمها في العالم، ومفادها عدم القدرة أو الجدوى من مقاومة السياسات الشديدة الليبرالية التي لم ينتج منها سوى الفقر وتضخم الفوارق الطبقية، مع حد أدنى من الدولة التي تحولت إلى مجرد حارسة للرأسمال وخادمة على أعتابه، لذلك عندما رشح بوريك نفسه لخوض غمار الانتخابات الرئاسية، أصر على القول: "إذا كانت تشيلي مهد النظام الليبرالي في أميركا اللاتينية، فهذه المرة ستكون مقبرته". فهل تشكل تجربة الشيلي الحالية عنواناً جديداً لمقاومة الشعوب لليبرالية المتوحشة؟ أم هي مجرد سحابة عابرة...؟