نهاية العام والشتاء القارص، كنا نركن للبيت، كانون الفحم مع القسطل أو الكستناء، بالنسبة لي في عائلتي الكبيرة، أتمترس في خندق بطانية كتاب. ثم مع الكبر، تنثال الذكريات، ويكون ما مضى الونيس، خصوصاً لذاكرة جيلي، أبناء ما بعد الحرب الكبرى الثانية، المرصوصة بالأحداث الجسام. ومع نهاية العام، تُفتح روزنامة العام الفائت، وبالذات أن محطات التلفاز، وكل الميديا، تنشغل بحصاد العام، وهذا ما يدفع المرء، في كثير من الأحيان، إلى التحسر على الماضي، بحيث يتنبّه إلى أن ما فات فات من العمر، وتعليل هذا، الشعور بالنقصان، أو كما يرى المرء نهاية العام.

هذه الأيام مع نهاية 2021، كما أسلفت، تذكرت أن جيلي عاش في خضم أحداث كبرى، آخذاً في الاعتبار، أنني من مواليد 21 أغسطس (آب) 1955. العالم اليوم يحتفل بالذكرى الثلاثين لتفكيك الاتحاد السوفياتي، 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991، فيما في بلادي يُحتفل بالذكرى السبعين ليوم الاستقلال، 24 ديسمبر 1951. مع نهاية إمبراطورية وميلاد دولة صغيرة، تفكرت خواطر كثيرة، مربوطة مع نهاية عام وبداية آخر. كنت أتابع الصحافة، مع محطات التلفاز التي تفضل متابعة الذكريات، ووجدت أن في الإنترنت، يحدث ذلك فتغص بالذكريات، ومقاربتها وتحليلها، والمعطيات التي تثيرها.

إضافة إلى ذكرى انهيار الإمبراطورية السوفياتية، هناك أخبار عاجلة بتهديد الدب الروسي لأوكرانيا، الدولة السلافية التي استقلّت من الاستعمار الروسي نتيجة لنهاية لم تنتهِ، نهاية الاتحاد السوفياتي. وهذه الأخبار أعادت نوعاً ما شيئاً من أجواء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، وبقية دول الحلف الأطلسي. وقد داهمني شعور طاغٍ بأن ثمة نهايات لا تنتهي، وبأن حسم نهاية كهذه لا يمكن الجزم فيه بسهولة. وكأن لانهيار الاتحاد السوفياتي أثراً قوياً يجعل نهايته صعبة المنال على الأقل. فروسيا مثلاً ورثت تركة الإمبراطورية بكل مثالبها ومحاسنها، وأوكرانيا المستقلة جارة الدولة الوارثة.

مما تقدم وغيره، فإن أوكرانيا المستقلة في 24 أغسطس 1991، كما ليبيا المستقلة منذ سبعين عاماً، بداية لم تتحقق أو يشوبها النقصان. فهذه الدولة المهددة من القيصر الروسي فلاديمير بوتين، بنيتها محمّلة بالإخفاق، حتى إن غالبية من حكمها منذ الاستقلال كُنيت بالحكام اللصوص، العصابة الحاكمة، ذلك من قبل كُثر في البلاد وخارجها. وقد تقلّب وضع وظرف البلاد التي تعددت ثوراتها، والصراع على السلطة فيها، كما خاضت في جزء منها حرب انفصال، واستولى القيصر على جزء منها، القرم، عام 2014.

وفي جانب آخر، ثمة عقبة مجتمعية، من مسألة النهايات والبدايات، خصوصاً في الاتحاد السوفياتي، ثم دولة أوكرانيا. ومن ذلك، تابعت أشرطة وثائقية، وقبل شاهدت أفلاماً روائية، دارت حول الأثر السوفياتي المجتمعي، فالمواطنة السوفياتية. ومن هذه الأشرطة الكاشفة، تتبيّن أن المسألة السوفياتية، في دول الاتحاد السابقة، لم تُسدل عليها الستارة بعد، وأن الدول المستقلة، لم تتحقق من استقلالها المأمول، فالنهاية ما لم تختم، تطبع البداية المترجرجة. وهذا الإشكال يتعين في الدولة المركز، من يديرها قيصر مشدود بخيوط الماضي، ولأن الدولة مهددة في مركزها، وهويتها غير متماسكة، لهذا المستقبل غائم. ما يجعل الماضي متجلياً. لكن هذا المتجلي ينعكس في الدول المستقلة. ليس من خلال النوستالجيا حنين المواطنة السوفياتية فحسب، بل والمتجلي في العجز، مرض رُكبة الدولة، التي لم تستطِع النهوض.

المشترك البيّن، بين دولة المركز روسيا، والدول المستقلة، أنها دول اتحاد سوفياتي ديكتاتوري، ما ينعكس في دولة المركز، في الزعيم القيصر بوتين، الحاكم لعقود فائتة ومقبلة. وما ينعكس أيضاً، في علاقة الدول المستقلة بدولة المركز. وهكذا العامل الخارجي أس الأسس، في الدول الوريثة للاتحاد السوفياتي، سواء كانت روسيا أو أوكرانيا... الخارج الفاعل الداخلي، تاريخياً وفي اللحظة الاستثنائية الآنية، فالخارج محمّل من الماضي، كما هو أفق لمستقبل.

المستقبل كما الماضي، عصب الحياة ووترها المتوتر، في الدول الخارجة من الحقبة السوفياتية، كما في الدول المستقلة عن الاستعمار الغربي. فالمصالح والنفوذ لم يقطعا خيط ماضيهما. فإن ما بعد الاستعمار، ما زال يُعنى بالاستعمار. فما زلنا في مرحلة ما بعد الحرب الكبرى الثانية، أو على الأقل في مرحلة إزالة آثار الحرب، في ناغازاكي أو هيروشيما، أو في التخلص من هيمنة إمبراطورية زالت لكن أثرها لم يزُل، وإمبراطورية أخرى انفردت بالهيمنة. طبعاً، لن يفوت القارئ الحصيف أن المستقبل أيضاً: إن الدول المُستعمَرة، نموذجها المأمول، الدول المُستعمِرة.

في أوكرانيا، يحتفلون باستقلالهم ونهاية السوفيات، تحت تهديد روسي وحماية أميركية، كما في ليبيا يحتفلون باستقلالهم. وروسيا تصرّ على مشاركة ابن القذافي، في الانتخابات الليبية المزعومة، فيما أميركا تلحّ على استحالة انتخابات يكون القذافي أحد مرشحيها.

وهذا يحدث، نهاية عام 2021 الذي لم ينتهِ، فقد ورث العالم "أوميكرون" ابن كورونا.