الشمس، بعد غروبها، حتمًا ستشرق شئنا أو أبينا، ورغم أنف البعض الذي يحبّذ ويود بقاء الليل دون شروقٍ للشمس، لأن ظلمة الليل ستار لكل الجرائم والموبقات والعهر والفجور والظلم والنهب، اولئك الذين يحجبون النور عن الناس هم اصل الجرائم كلها، بوعي أو دون وعي، مهما كانت حججهم وادعاءاتهم العقائدية والايدولوجية. اشعة النور، قدر حتمي ملازم للإنسان بإرادة الإنسان، تزيل استار الظلام عن الحقيقة رغم انف الذين يستثمرون الظلام لاخفاء الحقيقة عن وعي الناس. مادامت هناك حقائق تتستر تحت جنح الظلام وتتوارى عن الانظار مستعينة بادوات المكر والغش والخداع، فإن هناك ما يريب في تلك الحقائق، وسادتها مدانون بالجرم الأكيد وهم واعون لجرائمهم.. ومادامت تلك البقع السوداء المظلمة تتواجد على جغرافية مجتمعات الإنسان، فإن قناديل النور ومصابيح الإضاءة تتربّص تلك البقع المظلمة لكي تكشف وتعرّي الحقائق المغيبة عن أنظار الناس ومن ثم عن وعيهم. الذين يفضلون الظلام على النور هم الذين يعرقلون تقدم الإنسان إلى الأمام. تقدّم الإنسان لا يعني فقط تقدّمه العلمي والاقتصادي والتنموي، ولكن تقدّمه الإنساني في مجمل علاقة الإنسان بالإنسان، أي لا ظالم ولا مظلوم، والتقدم الإنساني هو بيت القصيد في معنى جوهر التقدم، ذلك الذي يقض مضجع الذين يعشقون ظلمة الليل، ليس حبًا في ليلى ولكن استعبادًا لليلى… وليس على هوى من تغني «الليل يا ليلى يعاتبني ويقول لي سلّم على ليلى»…

نساء ورجال عاهدوا ضمائرهم ان يحملوا قناديل النور ومصابيح الإضاءة لتنوير الطريق وكشف الحقائق وتحويل الناس من عالم الجهل المذل لكرامة الإنسان إلى عالم المعرفة والنور والكرامة. هؤلاء هم رواد العقل والتنوير، والعالم العربي، في تاريخه الحديث الذي يمتد منذ الحرب العالمية الأولى، زاخر برموز من الرواد وفي مقدّمتهم طه حسين وتوفيق الحكيم وعلي عبدالرازق، وفي عصرنا الحاضر فرج فودة الذي كان ضحية خناجر الظلام، والمفكر الكبير نصر حامد ابو زيد، والروائي المميز نجيب محفوظ الذي تعرض لمحاولة الاغتيال، والمفكر والناقد الكبير الدكتور جابر عصفور، وغيرهم مما لا يسع المقال ذكرهم كلهم.

مع إسدال الستار على العام الماضي ودّعنا المفكر التنويري الكبير الدكتور جابر عصفور، وكان قد سبقه قبل عام وعامين رفاقه في مشروع التنوير الدكتور حسن حنفي والدكتورة نوال السعداوي والاستاذ اسحاق الشيخ يعقوب، وقد يكون بينهم بعضًا ممن كان يحمل شموعًا لتعقب النور بغية الاستنارة بدل التنوير ومن ثم مساهمة متواضعة للتنوير في البيئة والمحيط التي يعيشون فيها؛ التنوير له تاثير تفاعلي يجعل ممن استنار ان يسهم في المشروع بشكل فعال ويطور الفكر التنويري مع المستجدات وتعاقب الايام او ينحصر مساهمته من التلقي إلى النقل، وهذا هو دور اكثر القراء والمتابعين لمؤلفات رواد التنوير… وهكذا يتفاعل النور والتنوير …

الدكتور جابر عصفور غني عن التعريف على المستويين العربي والعالمي، فهو الذي تبوب منصب وزير الثقافة مرتين في جمهورية مصر العربية، وأسهم في مؤتمرات عالمية وعربية ومحلية… بجانب دوره الاكاديمي الرائد في جامعات مصر فقد عمل أستاذًا زائرًا للادب العربي في جامعة ويسكونسن - ماديسون الامريكية، وأستاذًا زائرًا للنقد العربي في جامعة ستوكهولم في السويد، وأستاذًا زائرًا للنقد العربي في جامعة هارفارد الأمريكية… هذا الدور الاكاديمي في جامعات اوروبا وأمريكا فتح له ابواب التعرف من قرب على مجتمعات تتمتع بحرية الفكر والبحث العلمي وهي رائدة الحداثة، وتتخطى اليوم حداثتها الى ما بعد الحداثة، وكان تفاعله معها عبر قنوات اكاديمية وثقافية واجتماعية، وبالاخص ان دوره الاكاديمي قربه اكثر الى الجيل الشاب الصاعد والذي هو المحفز وقوة الدفع الاساسية والكامنة لتجديد الحداثة وتطويرها، وكان قريبًا من المفكرين الاكاديميين الذين يثرون ثقافة الحرية والنقد والحداثة وتجديد الحداثة وتطويرها.

ودعنا د. جابر عصفور وترك للاجيال القادمة مادة غنية حية من مؤلفات تنويرية تغطي مجالات البحث النقدي في الادب، والفكر والدراسات الاكاديمية، وجميع تلك المؤلفات يشع منها نور التنوير، والبحوث النقدية في الادب هي احدى تلك المداخل الى ثقافة التنوير. في مقدمة كتابه «نحو ثقافة مغايرة» يميز بين ثقافة التنوير والثقافة المناقضة للتنوير والمناهضة له بقوله: «و ليست كل ثقافة تدفع الى التنمية بالطبع… فهناك ثقافة ماضوية (مهووسة بالماضي) وثقافة مستقبلية، كما ان هناك ثقافة منغلقة وثقافة مفتوحة. اما الثقافة الماضوية فهي ثقافة منغلقة على نفسها، وتجعل من الماضي اطارها الاوحد في القيمة… فهي ثقافة تمضي الى الامام ووجهها في قفاها… وعلى النقيض من ذلك ثقافة المستقبل، ثقافة مفتوحة، واثقة من قدرتها الخلاقة على الاضافة، متطلعة دائمًا الى مستقبلها… وهي ثقافة تتسلح بالعلم و تؤمن بالتجريب إيمانًا بالعقل والتفكير العلمي، جنبًا الى جنب حق الاختلاف، وضرورة التنوع والتعدد في كل شيئ بوصفهما علامتي غنى وثراء في المجتمع وللمجتمع». من مؤلفاته التنويرية التي هي الآن في عهدتنا على سبيل المثال، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، مفهوم الشعر: دراسة في التراث النقدي، قراءة التراث النقدي، التنوير يواجه الإظلام، محنة التنوير، دفاعًا عن التنوير… اضافة الى العديد من البحوث والمقالات والترجمات، ومن اهم ترجماته، الماركسية والنقد الأدبي، اتجاهات النقد المعاصر، والنظرية الادبية المعاصرة. انتاجه الادبي والفكري كان موضع احترام وتقدير المؤسسات والمراكز الثقافية، فقد حصل على العديد من الجوائز، منها جائزة افضل كتاب في الدراسات النقدية من وزارة الثقافة - القاهرة 1984، وجائزة افضل كتاب في الدراسات الادبية من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي - الكويت 1985، افضل كتاب في الدراسات الانسانية من معرض الكتاب الدولي - القاهرة 1995، وجائزة اليونسكو للثقافة العربية - الشارقة للثقافة العربية - باريس 2008.

الدكتور جابر عصفور حمل شعلة التنوير طوال حياته الانتاجية في الادب والفكر والتدريس الاكاديمي والبحوث و الترجمات، ولم يترك مجالاً من التاريخ و العقائد والتراث والادب بفروعه وخاصة الشعر الا وطرقها في اتجاه خدمة مشروع التنوير، وقد اضاف واثرى مستعينًا بكامل خزينته المعرفية وتجاربه وجهوده الابداعية في الفكر والبحث، وترك لنا إرثًا غنيًا اضافه الى مشروع التنوير.

لقد أدى دوره بصدق وإخلاص وأمانة… وعلى الجيل الصاعد ان يتحمل مسؤوليته لمتابعة المشوار مع مشروع التنوير إلى ان يحقق المشروع أهدافه المستقبلية، ويتولد بعد ذلك مشروع جديد لتحديث ما تم إنجازه الى مستقبل جديد، وليس من خاتمة لمشوار التنوير.