رحلة الدول من العالم الثالث إلى العالم الأول رحلة شاقة ومكلفة، لكن نتائجها واعدة ومبهرة، وبناء دولة المؤسسات القوية بحاجة إلى إعداد آلاف القادة والعلماء والباحثين والمبدعين والخبراء في كل المجالات، وتوظيف الأكفاء وتأهيلهم بالتدريب والابتعاث ليصبحوا قادة لغيرهم من الشباب

مملكة شابة فتية، آمنت بالشباب وقدراتهم فأعطتهم الفرصة لقيادة نهضتها وتقدمها. وطن كبير حافظ عليه القادة الكبار وسلموه قوياً ومنيعاً وشامخاً لمن بعدهم. سلموه لشباب من الجنسين يتمتعون بالفكر والطموح والجَلَد، شباب آمن أن العلوم والتكنولوجيا لها صفة العالمية وليست ملكاً لبدان قليلة تستطيع احتكارها أو الحجر عليها. وعلى مسافة مناسبة منهم يقف أصحاب الخبرة والتجارب موجهين ومشاركين ومساهمين معهم في البناء، فلا شيء يبني ويثري كامتزاج خبرة الشيوخ وتجاربهم مع شجاعة الشباب وصبرهم وطموحهم.

المملكة اليوم فتحت الأبواب والنوافذ ليخرج نصف المجتمع الذي كان شبه معطل ليشارك في البناء ودعم الاقتصاد ومكافحة البطالة، وإبقاء أموال البلد بالداخل، بدل هروبها في اليوم الأول لاستلامها من قبل الوافد. بداية التصحيح كانت صعبة للغاية، لكنها ضرورية لتأسيس دولة الرفاه والرخاء والعلم والاقتصاد القوي بمصادره المتنوعة.

أقرأُ عن الدول التي نهضت من تحت ركام التخلف والفقر والفساد إلى مصاف دول العالم الأول كسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وقبلها اليابان فأجد أن خلف نهضة هذه الدول قادة حالمون وحازمون، فجّروا الطاقات ورفعوا الروح المعنويات، وحاربوا الفساد، وجهوا البوصلة نحو البناء والصناعة وتنويع مصادر الدخل، واليوم أرى أن المملكة تقف في بداية خط السباق الذي انطلقت منه تلك الدول إلى العالم الأول، رحلة صعبة وطويلة وخطرة، وتكمن خطورتها في تزايد أعدائها كلما زاد نجاحها. فالمملكة تعيش في منطقة جغرافية مضطربة، تتجاذبها قوى عالمية قوية، وقد أدركت قيادتها العليا ذلك فسعت إلى إيجاد سياسة متوازنة تكفل مصالحها ومصالح جميع الدول الفاعلة. ثم التفتت إلى قوتها الحقيقية وهي شعبها فمكنته، وأوجدت الفرص الواعدة للمزيد من قوته الاقتصادية والعسكرية السياسية. قيادة المملكة تؤسس لدولة حديثة قوية، واقتصاد مستدام أساسه متين، ومصادره لا تنضب، خطوات سريعة وفي أكثر من اتجاه. وستتضاعف النتائج المفرحة بإذن الله مع المزيد من الخطوات ومنها:

أولاً. الاهتمام بالإنسان تعليماً وتدريباً وتمكيناً من أهم أسباب قوة الأمم. وقوة الدولة تكمن في قوة شعبها، وكل دولة حديثة تحتاج إلى جيوش من العلماء والمهندسين والفنيين والقادة المتمكنين والقادرين على إحداث الخطوات المطلوبة لمواكبة التغييرات المتسارعة في عالم اليوم. والوسيلة المتاحة لتجهيز هذه الجيوش هو التعليم بكل مراحله، تعليم يكون هدفه الأول هو إعداد الإنسان وتزويده بالقيم والعادات التي تزيده قوة، وتسليحه بالمعارف والمهارات المطلوبة لسوق العمل. والجانب الثاني من الاهتمام بالإنسان هو إيجاد برنامج وطني لمكافحة الفقر بكل أشكاله وألوانه، وهذا المشروع من أهم المشاريع التي اهتمت بها الدول الناهضة حديثاً، ومنها الصين التي تسعى لزيادة الطبقة المتوسطة لعلمها أنها هي الأفضل في التربية والتعليم والقدرة الشرائية، مما يعزز اقتصاد البلد ويقلل نسبة الجريمة والمخدرات. مشروع إخراج الفقراء من دائرة الفقر مشروع وطني كبير ونبيل يشترك في تنفيذه جهات كثيرة من أهمها التعليم بإيجاد أفضل المدارس الحكومية داخل الأحياء الأقل دخلاً، ومنع التسرب من المدارس. والعمل على رعاية وتخريج عالم أو قاض أو طبيب أو مهندس أو فني من كل أسرة فقيرة، فهو القادر على انتشال أسرته الصغيرة من الفقر، وسيصبح المثال المحتذى والمحفز لأفراد أسرته الكبيرة. وعلى الضمان الاجتماعي والجمعيات الخيرية أن تفكر في تعليم وتدريب القادرين على العمل، ومن مبدأ لا تعطني سمكة، علمني كيف أصطادها.

ثانياً. تهتم الدول التي نهضت حديثاً بإنشاء مراكز الأبحاث والتطوير والابتكار، ودعمها بالمال والعنصر البشري من الداخل والخارج، فهي المحرك الأساس لأي اقتصاد قوي مستدام، وهي الوسيلة لامتلاك القوة الذاتية والتقنية. في هذه المراكز يتم التطوير والابتكار، ومن مراكز الدراسات تتخذ أفضل القرارات، وتقدم أفضل الخدمات. فلا شيء كالحلول العلمية مهما كانت مكلفة وبطيئة، بعكس القرارات المستعجلة التي تحاول أن تختصر الطريق أو التكلفة. الأبحاث والتطوير والابتكار تمر بطريق طويل وشائك، ولن تحقق النجاح إلا بجعلها من أهم أهداف السلطة العليا للدولة ولكل مؤسسة أو جامعة، مع التفريغ الكامل للباحثين الجادين وعدم إشغالهم بأمور إدارية، ودعمهم بالمال والعنصر البشري، وتسهيل إجراءات النمذجة والتصنيع والتسويق.

رحلة الدول من العالم الثالث إلى العالم الأول رحلة شاقة ومكلفة، لكن نتائجها واعدة ومبهرة، وبناء دولة المؤسسات القوية بحاجة إلى إعداد آلاف القادة والعلماء والباحثين والمبدعين والخبراء في كل المجالات، وتوظيف الأكفاء وتأهيلهم بالتدريب والابتعاث ليصبحوا قادة لغيرهم من الشباب. وعلى الشباب أن يقدسوا روح العمل واحترام الوقت، وأن يخرجوا أفضل ما لديهم من قوة الفكر والابتكار.