يواصل المسؤولون الأميركيون البارزون تحذيراتهم اليومية من اجتياح عسكري روسي وشيك لأوكرانيا وتجديد التزامهم بفرض عقوبات اقتصادية ومالية مؤلمة على الاقتصاد الروسي، بينما يواصل المسؤولون الروس احتجاجاتهم اليومية ورفض مضمون التحذيرات الأميركية واعتبارها جزءا من حملة إعلامية تضليلية، وهيستيرية، تهدف من جملة ما تهدف إليه استفزاز الاجتياح الروسي الذي تحذر منه.

المفارقة أن التحذيرات الأميركية أقلقت وأزعجت القيادة الأوكرانية التي سارعت عبر الرئيس، فلوديمير زيلينسكي، إلى انتقادها لأنها تخلق حالة "رعب" تؤثر سياسيا واقتصاديا على أوكرانيا وتحرمها من الاستثمارات الغربية.

التسريبات من المصادر السياسية والاستخباراتية في واشنطن تقول إن الرئيس جو بايدن وكبار مساعديه يعتمدون في تحذيراتهم على معلومات استخباراتية حول جهوزية القوات الروسية التي تحيط بأوكرانيا من ثلاث جبهات وخططها الميدانية وأنها تريد من تحذيراتها استباق الرئيس فلاديمير بوتين و "فضح" خططه قبل اللجوء إلى تطبيقها ووضعه في موقع دفاعي، ما يفسر استياءه واحتجاجاته العلنية.

أي مراجعة موضوعية للتحركات والإجراءات والمواقف الروسية وردود الفعل الإميركية والأطلسية عليها تبين التالي :

الرئيس بوتين نجح في إرغام حلف شمال الأطلسي (الناتو) على التفاوض معه عبر القمم الافتراضية والاتصالات الهاتفية مع الرئيس بايدن، أو زيارات قادة الدول الرئيسية في الناتو مثل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني، أولاف شولتز، إلى موسكو حول مطالبه وشروطه لحل الأزمة بغض النظر عن مضمون هذه المطالب وما إذا كانت تعجيزية أو نهائية أو مجرد مٌطالب أولية متشددة كمدخل للمفاوضات.

بوتين طالب بوقف رسمي لتوسع الناتو شرقا، وتجميد البنية التحتية العسكرية للحلف (عدم بناء قواعد عسكرية أو إدخال منظومات عسكرية جديدة) في الدول التي كانت سابقا جزءا من الاتحاد السوفيتي، وإنهاء الدعم العسكري المقدم من الناتو إلى أوكرانيا، والالتزام بعدم ضم أوكرانيا إلى الحلف، وعدم نشر صواريخ متوسطة المدى في أوروبا. رسالة بوتين من خلال حشوده العسكرية، هي إما القبول بهذه المطالب سياسيا، وإلا فإننا مستعدون للجوء إلى الخيار العسكري.

صحيح أن الولايات المتحدة وحلفاءها في الناتو لم يقبلوا بشروط بوتين، إلا أنهم ألمحوا إلى استعدادهم لاعتماد إجراءات لبناء الثقة من بينها اعتماد الشفافية في مجال المناورات العسكرية، وإبعاد هذه المناورات عن المناطق الحساسة، وضبط نشر الصواريخ المتوسطة المدى في أوروبا.

ولكن ربما ما حصل عليه بوتين بشكل ضمني هو إجماع الدول الرئيسية في الناتو بعدم التفكير بانضمام أوكرانيا إلى الحلف في أي وقت قريب، وربما عدم انضمامها في أي وقت في المستقبل. الرئيس الفرنسي ماكرون ألمح إلى أن أوكرانيا يمكن أن تعتمد مبدأ الحياد بين الشرق والغرب كما فعلت فنلندا منذ زمن.

نجح بوتين أيضا في تذكير الأوروبيين باعتمادهم الكبير على الغاز والنفط الروسيين وهو اعتماد يصل إلى حوالي 40 بالمئة من احتياجات بعض الدول من الغاز الطبيعي، ومن بينها ألمانيا، الدولة الأهم اقتصاديا في أوروبا الغربية.

وتزامنت الأزمة الأوكرانية مع ارتفاع أسعار النفط والغاز وقبل البدء بتشغيل أنبوب الغاز المعروف باسم "نورد ستريم-2" الذي سينقل الغاز الطبيعي الروسي لألمانيا تحت مياه الأطلسي متفاديا الأراضي اأاوكرانية.

صادرات روسيا من الغاز والنفط أعطتها احتياطا ضخما بقيمة 630 مليار دولار، ما يعني أن روسيا، تتمتع بمناعة، في المدى المنظور على الأقل، ضد أي ضربة لعائداتها المالية جراء مبيعات الطاقة إلى الأسواق الأوروبية.

أي غزو روسي لأوكرانيا سيؤدي إلى حظر مبيعات النفط والغاز، ما يعني أن روسيا، وأيضا الدول الأوروبية التي تعتمد على الطاقة الروسية، سوف تتضرر اقتصاديا في حال عبور الدبابات الروسية لحدود أوكرانيا.

هذا الاعتماد الاقتصادي المتبادل في مجال الطاقة بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي هو من الحقائق الاقتصادية والجيوسياسية التي برزت في القارة الأوروبية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي.

أخيرا نجح بوتين، مؤقتا على الأقل، في حرمان الرئيس بايدن من تركيز اهتمامه وطاقات الولايات المتحدة في منطقة شرق آسيا للتصدي سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا للنفوذ الصيني المتنامي في تلك المنطقة الأكثر أهمية اقتصاديا لأميركا من أي منطقة أخرى في العالم.

وفي بداية سنته الثانية في البيت الأبيض وجد الرئيس بايدن نفسه مشغولا بمواجهة تحديات في وسط القارة الأوروبية القديمة ومن مخلفات انهيار الإمبراطورية السوفيتية في القرن العشرين، بدلا من مواجهة الصين التي تشكل التحدي الأبرز لأميركا في القرن الحادي والعشرين.

في المقابل، رد الرئيس بايدن والحلفاء في أوروبا، على إجراءات واستفزازات بوتين بجبهة موحدة إلى حد كبير على الرغم من التردد الأولي لألمانيا، كما فاجأ بايدن نظيره الروسي بتحذيرات واضحة بأن أي اجتياح لأوكرانيا سوف يعرض روسيا إلى عقوبات اقتصادية ومالية وتقنية غير معهودة من الولايات المتحدة وحلفائها.

وصاحب هذه الإنذارات بنشر قوات عسكرية أميركية في دول الحلف في شرق أوروبا مثل رومانيا وبولندا، وأيضا في دول بحر البلطيق، في سياق تنسيق سياسي وعسكري على مختلف المستويات، ليس فقط بين دول الحلف، ولكن أيضا بين واشنطن والحلفاء من جهة وبين أوكرانيا من جهة أخرى وفقا لشعار: لا شيء يتعلق بأوكرانيا يمكن أن يناقش دون أوكرانيا.

العقوبات المتوقعة سوف تشمل حرمان روسيا من المشاركة في النظام المالي الدولي، وحرمانها من الاستفادة من أي تقنيات تشارك الولايات المتحدة في تصنيعها أو تصميمها.

جهود إدارة بايدن في هذا المجال نجحت في إقناع ألمانيا بوقف العمل في أنبوب الغاز "نورد ستريم – 2" في حال غزت روسيا أوكرانيا، وهذا ما أوضحه المستشار شولتز خلال اجتماعه بقادة مجلس الشيوخ خلال زيارته الأخيرة لواشنطن. رسالة واشنطن لموسكو هي: أن مصادر الطاقة الروسية لأوروبا يجب أن تعتبر سيفاً ذو حدين.

بعد أكثر من ثلاثة أشهر من التوتر والتهديدات المتبادلة، يجد بوتين نفسه في مواجهة حلف موحد أكثر من أي وقت مضى، وبعد حقبة الرئيس السابق، دونالد ترامب، التي بدا فيها الناتو وكأنه وصل إلى طريق مسدود، بسبب تشكيك ترامب العلني بجدواه.

وبدلا من أن تؤدي تهديدات بوتين إلى تعميق الاستقطابات في أوكرانيا، فإنها ساهمت في توحيد البلاد ورفضها لمطالب بوتين، وهو رفض عبّر عنه أوكرانيون من أصل روسي.

في هذا السياق، ادعاءات بوتين أن سكان روسيا وأوكرانيا (وأيضا روسيا البيضاء) يشكلون شعبا واحدا له جذور ثقافية ولغوية ودينية واحدة، وإن كانوا يعيشون في دول مستقلة، أدت إلى ردود عكسية في أوكرانيا.

تهديدات واستفزازات بوتين جددت الجدل السياسي في الغرب، والذي لم يتوقف نهائيا، وإن بقي في الخلفية منذ غزوه لأوكرانيا وضمه لشبه جزيرة القرم في 2014: هل بوتين متهور وينتمي إلى عصر بائد، أم أنه يتمتع بعقل استراتيجي ويخطط بعقلانية قبل أي مبادرة هامة.

محللون كثر يقولون إن بوتين يريد إحياء الإمبراطورية السوفيتية (التي يراها بالعمق إمبراطورية روسيا السلافية) ولو بالقوة . هؤلاء يشيرون إلى تدخله العسكري وضمه لأراض تابعة لجيرانه في جورجيا وأوكرانيا، وأيضا تدخله العسكري المباشر في سوريا، وغير المباشر وعبر قوات المرتزقة في ليبيا وغيرها من المناطق في أفريقيا.

ولكن هناك أقلية من المحللين ترى أن بوتين يقامر، ولكن بعد حسابات دقيقة كما فعل في حالات جورجيا وأوكرانيا (2014) وسوريا، إلا أن هدفه الاستراتيجي الرئيسي في أوروبا الوسطى والشرقية هو وقف تمدد حلف الناتو شرقا باتجاه الحدود الروسية، وليس بالضرورة ضم أراض جديدة في أوكرانيا أو غيرها من الجمهوريات السوفيتية السابقة.

حتى الآن لا يزال بوتين في موقع الطرف الذي يبادر، والغرب في موقع الطرف الذي يرد على مبادراته. ولكن الوضع الراهن لا يمكن أن يبقى مفتوحا إلى ما لا نهاية.

خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة سوف يضطر بوتين إلى إصدار الأوامر لقواته إما بالتقدم إلى الأمام واجتياح أوكرانيا، أو التراجع إلى الوراء باتجاه ثكناتها.

اجتياح أوكرانيا هذه المرة سوف يكون مكلفا أكثر من الاجتياح الأول، في 2014، وقد يورط روسيا في حرب استنزاف طويلة. ويفترض أن يكون بوتين مدركا لهذه الحقيقة حتى ولو لم يفكر بها عندما بدأ بحشوده حول أوكرانيا وقبل أن يوحد الناتو ويوحد أوكرانيا. بعد أشهر من المناورات العسكرية والسياسية يجد فلاديمير بوتين نفسه أمام خيارين كلاهما صعب.