لقاءات الأمير محمد بن سلمان دائماً مبهرة ومبهجة، وتعطي للمواطن السعودي شحنة من الطاقة ومزيداً من الثقة بسموه وبرؤية 2030. لكن لقاءه الأخير مع الأتلانتِك كان استثنائياً بكل المقاييس. فلطالما أبهرنا سموه بذاكرته الحديدية وسرعة بديهته، لكنه في هذا اللقاء الأخير تميز بالدقة في تسديد الأهداف، حيث قلب الطاولة على المحاور الذي جاء وفي جعبته حزمة من الأسئلة التي كان يظن أن واحداً منها على الأقل سيضع سموه في موقف حرج. لكن الأمير محمد صار هو الذي يحشر المحاور في الزوايا الضيقة ببراعة قل نظيرها. القدرة الخارقة على استحضار المعلومة وحفظ الأرقام أمر تفرد به سموه، لكن براعته في هذا اللقاء تحديداً تمثلت في قدرته على رد كيد الصحفي الذي تحول إلى الهدف بدلاً من الهدّاف. ومع ذلك فإن صلب الموضوع ليس المبارزة الكلامية بقدر ما هو ما يحمله اللقاء من تباشير لنا بأهداف تنموية وإصلاحية تحققت وأخرى تتلوها في الطريق.

ببساطة، اللقاء أدهشني وأدهش الجميع وإن كان من غير المستغرب على سموه الذي عودنا في كل لقاءاته أن تخرج إجاباته كلها فوق التوقعات وتبث فينا جميعنا شحنة من الطاقة والتفاؤل. يصعب انتقاء إجابة بعينها كمثال على براعة الأمير في الإجابات لأنها كلها «تبرد الكبد». لكن ما استوقفتني هي تلك الإجابات المتعلقة بالعلاقات بين السعودية وأمريكا وكذلك بين سموه وبايدن. هنا تكمن القوة التي تؤكد على أن السعودية شبّت عن الطوق ولم تعد رهينة لغطرسة الديموقراطيين، ولم تعد تأبه بالعلاقة مع الولايات المتحدة إن لم تكن الأخيرة مستعدة للتعامل معنا بندية، فنحن أصبحنا بفضل رؤية 2030 ومخرجاتها في موقع يفسح لنا الطريق لنتحرك بحرية على الساحة الدولية، وأصبح الجميع يخطب ودنا ويسعى لتمتين العلاقة معنا و«خلّي غطرسة بايدن تنفعه». هذا اللقاء سيجعل الديموقراطيين يعضون أصابع الندم ويضربون كفّاً بكفٍّ على الفرص التي أهدروها معنا، فالسعودية لم تعد يقعقع لها بالشنان، حيث لم تشهد في تاريخها مثل ما تشهده اليوم من وحدة الصف والاصطفاف خلف قيادتها، وهذا هو مصدر قوتنا الأول، وبفضل هذه الوحدة صار ينطبق علينا، فيما يتعلق بالعلاقات الدولية، القول المأثور «طب وتخيّر».

من المستحيل إعادة انتخاب بايدن لدورة رئاسية ثانية لأنه ببساطة أضاع مصالح أمريكا. بل إن سياسات بايدن الخرقاء ربما تقف حجر عثرة أمام تسلم الحزب الديموقراطي رئاسة الولايات المتحدة لعقود قادمة. حينما يودّع هذا الخَرِف البيت الأبيض حينها ستهرول أمريكا لإعادة تمتين العلاقات بينها وبين السعودية، وستكون السعودية في موقع أقوى في رسم ملامح هذه العلاقات.

المتتبع عن كثب للمشهد الدولي في السنوات القليلة الماضية سيلاحظ دفء العلاقات بشكل متسارع بين السعودية وبين كل من روسيا والصين. وأجمل ما في العلاقة مع هاتين الدولتين الرزينتين أن قوتهما في طريق الصعود وأن علاقتهما مع الآخر علاقة براغماتية متّزنة ومتوازنة تقوم على المصالح المشتركة دون محاولة فرض قيمهما وأخلاقياتهما على الجانب الآخر. وقد لوح الأمير محمد في أكثر من مناسبة أن تمتين وتطوير العلاقات مع هاتين القوتين العظميين كبديل للعلاقة مع الولايات المتحدة أمر وارد جداً. القوة الاقتصادية للدولة السعودية والاصطفاف الشعبي خلف قيادتها يفتح خياراتها على المشهد الدولي بحيث إن أي دولة سترحب بإقامة علاقات معها. كما أن التطور المتسارع للمشهد الثقافي والانفتاح الاجتماعي في السعودية سيقطع الطريق على من يتنطّعون علينا بقيم وممارسات يلوحون بها في وجوهنا كمؤشرات على تميزهم وتقدمهم علينا اجتماعياً وثقافياً.

أنا في هذا المقال لست بصدد رسم السياسة السعودية الخارجية، فأنا أسلّم القوس لباريها. لكن استقلالية القرار السعودي أمر يهمني ويهم كل مواطن سعودي، وأرى في اللقاء الأخير لسمو ولي العهد مؤشراً قوياً على أن سعودية الرؤية ترفض الإملاءات ولم نعد نرضى إلا بالمستوى اللائق بنا في التعامل، فنحن الآن قفزنا من الترتيب 20 إلى الترتيب 17 في مجموعة العشرين الكبار، والوعد قدّام. قريبا سيكتمل تحقيق برامج الرؤية التي ستضعنا في مصاف الدول العشر الأولى في هذه المجموعة.

حضور البديهة وسرعة الرد والصياغة اللغوية الواضحة والوجيزة مؤشرات على استثنائية شخصية الأمير محمد وعقليته الفذة وجرأته في الدفاع عن بلاده ورعاية مصالحها. كان اللقاء مع أتلانتك مبارزة سدد فيها أميرنا كل الأهداف. هنيئاً لنا بهذا القائد الملهم، ولنكن كلنا عوناً وجنوداً له. كل لقاء يجريه ولي العهد مع وسيلة إعلامية يشحن السعوديين بجرعة هائلة من الطاقة ويبعث فيهم الثقة بمخرجات رؤية 2030 ويزيل كل رواسب الشك التي قد يحملها البعض. والكل ينام ملء جفونه آمناً مطمئنا ًعلى مستقبل أطفاله وأحفاده وأنهم سيعيشون حياة يحوطها الأمن والعزة والكرامة. كانت السعودية منذ التأسيس وحتى الآن تنجب القادة الأفذاذ الذين يصنعون التاريخ، ويرسمون مسار الأحداث ببصيرة نافذة وشجاعة نادرة.