كنا نتناول بالنقد والتحليل ما وصل إليه العالم من اغتراب نفسي وسياسي واجتماعي واقتصادي أيضاً، في ضوء تحليل المدارس والنظريات الفلسفية المستوفدة، والتي توصلنا لها -في موسوعتنا "نقد النقد" التي صدرت منذ عدة سنوات- في نهاية المطاف إلى تخبط العالم واغتراب الفرد في ضوء تجليات النظريات الغربية المعاصرة، مثل: الحداثة والحداثة الجديدة والليبرالية الجديدة والعولمة. وطالبنا كثيراً بظهور نظريات عربية تعدل الميزان ولم نجد، بل انتصرت الليبرالية الجديدة والعولمة التي تفرض على الإنسان أن يكون فرداً في الفضاء العالمي وما تبعها بما يسمى بحقوق الإنسان، التي يتبناها العالم دفاعاً عن فرد يعيش في هذا الفضاء وبلا انتماء لأي هوية أو قومية بل ينتمي إلى العالم، وهو على العكس من فكر كولن ويلسن الذي جعل الفرد ضد العالم في كتابة (اللا منتمي) وذلك بعد ويلات الحرب العالمية الثانية.

ولعل ما يراه العالم اليوم من حرب، هو نتاج صراعات فكرية وسياسية كنتاج للنظرية الجديدة التي أصدرها المفكر والفيلسوف الروسي (ألكسندر ديوغين)، والتي بمقتضاها قد يسدل الستار على النظريات السابقة من حداثة وحداثة جديدة، وليبرالية وليبرالية جديدة، وفاشية أو اشتراكية بمفهومها الواسع. كل تلك النظريات هي ما تسود العالم سواء كان على مستوى السياسة والاقتصاد والاجتماع والسوق وحتى على سلوكيات البشر، ما جعل ديوغين يخرج لنا بهذه النظرية، وهو المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل إن الأخير يعمل على العديد من نقاط أفكاره، حيث يثور ديوغين على كل تلك النظريات؛ لأنها من وجهة نظره أفسدت العالم وأفسدت القيم والأخلاق، ولهذا أصدر لنا النظرية السياسية الرابعة، والتي تخرج من كهف الأيديولوجية الأوراسية لهذا المفكر. فحينما سئل ديوغين عن هذه النظرية، والفرق بينها وبين النظريات الثلاث الأخرى (الفاشية، الليبرالية، الشيوعية)، وهل من نقاط تلاقٍ بينها وبين تلك النظريات الثلاث؟ أجاب بقوله: "يمكن أن نقول إنها عبارة عن مقترح للتخلص من المد الاستعماري، التخلص من مد الوعي الاستعماري السياسي، ولو أخذنا دولاً عربية وإيران أو تركيا وباكستان وتحدثنا عن الدول الإسلامية، نجد أنها لا تزال تعيش ولدرجة ما من الناحية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بأيديولوجيات استعمارية، أي تحت تأثير الغرب –أي الفكر الغربي–، لذلك النظرية السياسة الرابعة لا تقترح البحث عن نظرية واحدة وعالمية للكل، بل يجب على كل مجتمع وثقافة وحضارة أن تبحث في جذورها وثقافتها وتقاليدها وتاريخها وقيمها، وأن تبحث عن نموذج سياسي مستقل عن الغرب، وهذا ما يسمى بعالم متعدد الأقطاب، وهي فكرة تتمحور حول التخلص من الهيمنة الغربية في الفكر السياسي، وهذه هي النظرية السياسية الرابعة".

هو بذلك يثور على العولمة والليبرالية الجديدة، وأن يكون الفرد في فضاء عالمي منزوع الهوية والقومية والعادات والتقاليد والأخلاق الخاصة بكل مجتمع وبكل حضارة، وهو هنا يدعو إلى العودة للجذور واستقلال كل مجتمع بحسب تقاليده وأعرافه وأخلاقه ومعتقداته وسياسته. فهو يدحض فكرة القطب الواحد المهيمن على العالم منذ سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991 واختلال موازين القوى. ويرى أنه "عندما نفكر في النظرية السياسة المعاصرة الرابعة ليس في الغرب فقط ولكن أيضاً في الشرق في العالم الإسلامي في روسيا والصين وإفريقيا وأميركا اللاتينية وفي الحضارات والثقافات الأخرى"، فالعالم كله يحيا تحت ظل ثلاث أيديولوجيات نشأت أصلاً في الغرب، وهي: (الليبرالية التي انتصرت ثم الاشتراكية بمفهومها الواسع وأخيراً الفاشية). هذه الأيديولوجية القادمة هذه المرة من الشرق، قريبة من أفكارنا، من جهة استقلالية الفكر والتوجه بحسب عقيدتنا وأعرافنا وتقاليدنا، هذه النظرية تنبذ الأيديولوجيات المستوفدة التي جعلت العالم اليوم يتقلب في صراع بين قوى سيطرت على العالم، بما تسمى الليبرالية الجديدة والعولمة وهيمنة القطب الواحد، وبين دعوة ديوغين باستقلالية المجتمعات والحضارات، وأن لكل حضارة أو مجتمع الحق في تحديد فكره وقوانينه وتقاليده وأخلاقه، والذي شدد كثيراً على مبدأ الأخلاق بقوله: "هذا التناحر قد حدد السياسة، ليس في الغرب فقط ولكن في العالم أجمع، عندما انقسم العالم إلى معسكرين، معسكر رأسمالي ومعسكر اشتراكي، وبعد هزيمة الاتحاد السوفيتي انتصرت الليبرالية، وها نحن نعيش في عالم ليبرالي. ويظهر هنا سؤال، نحن نعيش في العالم أجمع تحت تأثير أيديولوجية غربية واحدة، أيديولوجية واحدة فقط، ولكن ما علاقة تلك الأيديولوجية الغربية بتقاليد الفكر المسيحي الروسي؟ وما علاقة تلك الأيديولوجية بالإسلام أو بالتقاليد الصينية أو الهندية أو الإفريقية؟ لا توجد علاقة، لكننا مضطرون أن نتعامل معها، ولذلك تتزايد المقاومة ضد هذه الأيديولوجية الليبرالية الغربية، حيث يقول الناس إن قيم الليبرالية غير مرضية لنا، ولا تتفق معنا، مثل: فردانية الإنسان والرأسمالية والملكية الخاصة وما بعد الحداثة والسياسة الجندرية وغيرها. ماذا يحدث؟ نجد أن الشعوب تبدأ في البحث عن بدائل، والبدائل هي نفسها الشيوعية والفاشية وهي أيضاً بدائل غربية، لذلك كله فإن النظرية السياسية الرابعة تقترح البحث عن بدائل لليبرالية خارج حدود الأيديولوجيات السياسية الغربية، وذلك مع الأخذ في الاعتبار أن تلك الأيديولوجية السياسية الغربية لا تعتبر أيديولوجية عالمية، وما هي إلا أيديولوجية استعمارية، ففرض الغرب على الشعوب نموذجه السياسي بما في ذلك الديموقراطية وحقوق الإنسان التي أصبحت الآن قيماً عالمية إلى حد ما. وتتلخص هنا النظرية السياسية الرابعة في البحث عن بدائل ليس لليبرالية فقط ولكن لكل الأيديولوجيات والتعاليم الأخرى". لقد نوهنا كثيراً لإيجاد بدائل للعولمة، لأن للشخصية العربية سماتها، فلم تتأقلم مع العولمة والفردانية في فضاء واسع بلا هوية وهذا ما وصل له ديوغين. إن هذه الحرب الدائرة الآن ما هي إلا دفاع قطبي عن أيديولوجية بعينها، ومناهضة فكر أيديولوجي لجهة قطبية أخرى، إنها إعلان عن وفاة العولمة بالسكتة الدماغية.