انطلقت ظاهرة المقتنيات الرقمية الفريدة NFT على نطاق واسع العام الماضي وصحب ذلك الحدث تغطيات إعلامية كبيرة وقصص نجاح ملهمة، إلى جانب بروز عدة منصات لتداول هذه المقتنيات. أبرز المنتفعين من هذه الصرعة التقنية الجديدة هم أهل الفنون الرقمية وأولئك الذين لديهم مقتنيات رقمية يرى البعض فيها قيمة تاريخية ويودون امتلاكها بشكل رسمي وقاطع، ولديهم الاستعداد لدفع أموال طائلة مقابل ذلك.
كيف تطورت سوق المقتنيات الرقمية خلال عام منذ انطلاقتها المدوية؟ وهل ما زالت السوق نشطة ومحافظة على أسعارها وحجم عملياتها اليومية؟ وما مستقبلها؟
أهم عمل فني تم بيعه في هذا المجال لوحة فنية رقمية للفنان بيبل بيعت بمبلغ 70 مليون دولار من خلال مزاد كريستي الشهير، الذي أصبح بعد ذلك يقبل العملات المشفرة في مزاداته، سواء لشراء مقتنيات رقمية أو غيرها. وقبل ذلك كانت هناك مقتنيات أخرى تم بيعها بعدة ملايين من الدولارات، شملت منتجات رقمية متعلقة بالألعاب الإلكترونية، وحقوق ملكية لأغان وشعارات متنوعة، بل إن واحدة من أكبر عمليات البيع تمت العام الماضي بمبلغ 2.9 مليون دولار لشراء أول تغريدة قام بها مؤسس منصة تويتر وقت إطلاق المنصة عام 2006، وقام بشرائها شخص يعمل في ماليزيا في مجال التشفير وسلاسل الكتل وهو من أصول إيرانية. قبل أسابيع قام مالك هذه التغريدة بعرضها للبيع من خلال واحدة من أكبر منصات المقتنيات الرقمية وحدد سعر البيع بمبلغ 48 مليون دولار، وذكر أنه سيقوم بالتبرع بنصف القيمة إلى مؤسسات خيرية، إلا أن أعلى طلب كان في حدود 14 ألف دولار فقط، مقارنة بـ 2.9 مليون دولار تكلفة الشراء.
فشل عملية بيع أول تغريدة أثارت الشكوك حول جدوى ظاهرة تملك المقتنيات الرقمية وما إذا كانت العملية برمتها مجرد صرعة عابرة ستزول مع الوقت، فهل هي بالفعل صرعة عابرة؟
هناك انخفاض في عدد عمليات الشراء وحجمها التي تتم من خلال المنصات الرقمية، وأكبرها منصة البحر المفتوح Open Sea، حيث تصل المبيعات اليومية أحيانا إلى أكثر من 100 مليون دولار، إلا أنها أخذت في الانخفاض إلى حدود 30 مليون دولار في اليوم، وكذلك هناك انخفاض في متوسط قيمة الأصل المبيع التي انخفضت إلى ما دون 2000 دولار للمنتج الواحد في هذه الأيام.
هل هي صرعة عابرة ارتكزت على ظاهرة الثراء العالي في الأعوام القليلة الماضية وتزايد حجم السيولة في أيدي المستثمرين؟
نعم هناك صرعة عابرة فيما يخص أحجام بعض العمليات وتنوع المقتنيات المطروحة، لكن في الوقت نفسه هناك فوائد حقيقية من المقدرة على تسجيل ملكية المقتنيات الرقمية بشكل قاطع وملزم وآمن. وهذا هو السبب في ابتهاج شرائح عديدة من الفنانين والرسامين وغيرهم ممن لديهم مهارات التصميم والابتكار وعشاق التراث والتاريخ، حيث أصبح بالإمكان بيع أو تأجير منتجاتهم إلكترونيا. ظاهرة منح الملكية المطلقة لأصل رقمي هي نتاج طبيعي للتطور الكبير في مجال تقنية سلاسل الكتل، وهي التقنية التي تقوم عليها كل العملات المشفرة، مثل بيتكوين وإيثيريوم. فكرة منح المنتجات الرقمية ملكية غير قابلة للنزاع دون الاعتماد على جهة مركزية، سواء حكومية أو غير حكومية، بدأت تأخذ طابعا جديا وعمليا منذ انطلاق العملات المشفرة، إلا أنها أخذت بالاشتهار السريع العام الماضي نتيجة عدد من حالات البيع الكبيرة المعلنة، ما فتح الباب على مصراعيه لتجارة هذا النوع من المقتنيات الرقمية.
جاذبية هذه التقنية تأتي في كونها تسمح بالاتفاق على حقيقة أمر ما، مثلا هذا الشخص يملك عددا من قطع بيتكوين، أو أن هذا الشخص قام بإرسال عشر قطع من عملة "إيثر" إلى شخص آخر، أو أن هذا الشخص يملك أول تغريدة نزلت في منصة تويتر، أو أن آخر يمتلك اللوحة الفنية الفلانية التي قام برسمها الفنان الفلاني. الحقيقة أن قيمة المنتجات الفنية والتاريخية، سواء الرقمية أو غير الرقمية، وما يدفع من أسعار لشرائها، ليست بسبب حاجة المشتري إلى مشاهدة العمل الفني والاستمتاع به، بل إنها تعود بشكل كبير إلى الإحساس بالقوة والنفوذ وحب المباهاة وإثبات الذات ويجدها بعض الأشخاص في تملك تلك الأشياء. هناك من اشترى مقتنيات ثمينة بملايين الدولارات، ومن ثم قام بإهدائها إلى أحد المتاحف الشهيرة على أن يشار إلى أنها من مقتنياته. هذا الشعور الإنساني لدى البعض هو الذي فتح الطريق لتوظيف تقنيات التشفير لمنح الملكية بشكل قاطع لمن يقوم بشراء أصل رقمي، أو حتى غير رقمي، من المالك الحقيقي، ومن ثم تسجل الملكية باسمه.
المقتنيات الفريدة هي الأشياء غير المتجانسة، وهذا يختلف عن الأشياء المتجانسة التي تسمى في الأسواق المالية fungible، أي: إن جميع وحدات الشيء متطابقة مثل أن ورقة ريال في جيبك مطابقة تماما لورقة ريال في جيب شخص آخر، أو أن سهم شركة سين مطابق لأي سهم آخر للشركة نفسها، أو أن قطعة بيتكوين مطابقة لأي قطعة بيتكوين أخرى. لكن المقتنيات الرقمية الفريدة ليست متجانسة، وبذلك كل منتج يختلف عن الآخر وله سعر مختلف وله قيمة مختلفة.
مفهوم التجانس مهم جدا لعمل أسواق السلع والأسواق المالية لأن تطابق الوحدات المتداولة يسهل عملية التسعير والتداول، قارن ذلك ببقية الأسواق، مثلا القطع العقارية المعروضة للبيع ليست متطابقة، حتى لو كانت في المخطط العقاري نفسه، ولا السيارات المستعملة متطابقة، ولا المنتجات الزراعية متجانسة، وتختلف درجات عدم التجانس فهناك تجانس بدرجات متفاوتة في سلع وأشياء أخرى: مثلا السيارات الجديدة من الطراز واللون والنوع نفسه، تكون متطابقة إلى حد كبير. لذا فإن عملية تسعير الأشياء الفريدة صعبة وهذا ما يجعل بورصات السلع تضع مواصفات دقيقة لتتمكن من تداول المنتجات غير المتطابقة، وهو الأمر الذي تمت معالجته أخيرا من خلال سلاسل الكتل وعمليات التشفير.
أول من تناول فكرة عدم التطابق هذه وأدخلها في سلسلة الكتل هي عملة "إيثيريوم" المنافسة لعملة بيتكوين، وذلك من خلال ابتكار آلية متطورة لما يعرف بالعقود الذكية، حيث تمت إضافة بيانات ونصوص برمجية للعمليات التي تتم على سلسلة الكتل من أجل تعظيم الاستفادة من البنية التحتية لسلسلة الكتل، بدلا من قصرها على العملات المشفرة.
تجارة المقتنيات الرقمية باقية وستزداد أهميتها في المستقبل، وليس بالضرورة في المقدرة على بيع ما هب ودب من منتجات، بل في كونها طريقة تقنية محكمة يمكن من خلالها تسجيل المقتنيات الرقمية وغير الرقمية بأسماء مالكيها، حيث لا يكون هناك مجال للنزاع في حقيقة الملكية ولا مجال هناك لجحد هذه الملكية. ورغم ذلك حدثت عمليات احتيال رقمية العام الماضي بأكثر من 14 مليار دولار، بعضها في مجال المقتنيات الفريدة، والأسباب غالبا تعود للتفريط من قبل بعض منصات المقتنيات الفريدة في عدم التحقق من الملكية التقليدية قبل نقلها إلى ملكية رقمية، إلى جانب الاختراقات المعهودة والمخادعات المبنية على الهندسة الاجتماعية.
- آخر تحديث :
التعليقات