يستهدف برنامج تنمية القدرات البشرية بناء مواطن منافس عالميا، ويطرح البرنامج في هذا المجال الصفات التي يجب أن يتحلى بها هذا المواطن، كما يبين متطلبات إعداده، وتأهيله بهذه الصفات. وترتبط الصفات المطلوبة التي يطرحها البرنامج بأربعة أبعاد رئيسة، تشمل: بعد القيم والسلوكيات، وبعد المهارات الأساسية التي يحتاج إليها الإنسان في هذا العصر، ثم بعد مهارات المستقبل المقبل التي يجب على الجميع الاهتمام بها والسعي إلى اكتسابها، ويضاف إلى ذلك بعد التأهيل المعرفي الذي يجب أن يتوافق مع سوق العمل ومتطلباتها المتجددة. وطرحنا الصفات المطلوبة تبعا لهذه الأبعاد في مقال نشر على هذه الصفحة يوم 7 نيسان (أبريل) الماضي.

وفي إطار بيان متطلبات الإعداد وتأهيل الإنسان بالصفات المنشودة، قدم البرنامج هذه المتطلبات عبر ثلاثة محاور رئيسة: محور يهتم بتطوير أساس تعليمي مرن ومتين، ومحور يركز على قضايا سوق العمل وآفاقها المستقبلية، ثم محور يتبنى التعلم مدى الحياة. وسعى البرنامج إلى دعم متطلبات هذه المحاور عبر العمل على بناء منظومة تمكين وطنية داعمة تحرص على إشراك القطاع الخاص والمؤسسات غير الربحية في العمل على تحقيق المتطلبات، مع تأكيد القيم والسلوك والاهتمام باللغة العربية. وناقشنا متطلبات الإعداد بشيء من التفصل، في مقال نشر على هذه الصفحة يوم 14 نيسان (أبريل) الماضي.

غاية هذا المقال هي مناقشة مسألة الاستفادة من بناء المواطن المنافس عالميا، من خلال عمله المهني، إضافة إلى النظر في متطلبات هذه الاستفادة. وتنقلنا هذه المسألة زمنيا إلى ما بعد نجاح برنامج تنمية الموارد البشرية في تأهيل المواطن المنافس عالميا، والسعي إلى استثمار هذا النجاح والانطلاق إلى المستقبل الذي نتطلع إليه. وهناك في هذا المجال ملاحظة مهمة يجدر طرحها قبل البدء بالمناقشة المستهدفة. تقول هذه الملاحظة إن لدى المملكة في الوقت الحاضر كثيرين من المؤهلين الذين يمكن وصفهم بالمنافسين عالميا، وذلك في المجالات المختلفة. ويقدم هؤلاء فوائد جليلة للمجتمع، هي مثال أولي عما يمكن أن نتوقعه من مخرجات البرنامج، وسيكون للبرنامج دور في توسيع دائرة هؤلاء، بين الأجيال الجديدة والمتجددة، وبالتالي في توسيع مدى الفوائد المرجوة التي يحتاج إليها المستقبل المنشود.

لعل المتطلب الرئيس للمواطن المنافس عالميا يكمن في سوق العمل. فتأمين العمل المناسب لهذا المواطن يتيح له تقديم الفوائد المرجوة منه، ويمكنه بالتالي من تحقيق متطلباته الأساسية في حياة كريمة، تؤمن له البيئة اللازمة للعطاء والتميز، وتحفزه على تفعيل طموحاته التي تتيح له الارتقاء الشخصي عبر مزيد من الفوائد التي يقدمها للمجتمع. وتنبه برنامج تنمية الموارد البشرية إلى أهمية هذا الأمر، ليس فقط في طرح موضوع سوق العمل وآفاقها المستقبلية، بل في تقديم موضوع منظومة التمكين الوطنية التي تحرص على إشراك القطاع الخاص في دعم متطلبات تنفيذ البرنامج أيضا.

يمكن النظر إلى مسيرة المواطن المنافس عالميا من منظورين اثنين. يرى المنظور الأول أن هذا المواطن المؤهل راغب في العمل الحر وريادة الأعمال، بل لديه مشروع محدد في إطار هذا الأمر يتناسب مع معطيات العصر واحتياجاته وتطوراته، لكنه لا يملك رأس المال الكافي للانطلاق في مشروعه. أما المنظور الثاني، فيرى أن هذا المواطن المؤهل لا يهتم بريادة الأعمال، وإنما يبحث عن وظيفة مناسبة، في المؤسسات المختلفة في القطاعين العام والخاص، تتيح له إبراز قدراته وتفعيل الاستفادة منها بما يعود عليه والمجتمع بالفوائد المرجوة.

يحتاج المواطن المنافس عالميا في إطار المنظور الأول إلى تمويل لمشروعه الواعد. وهنا يبرز دور البنوك في مثل هذا التمويل، بل يبرز دور الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة "منشآت" التي أسست عام 2016. وتقول هذه الهيئة في طرح أهدافها إنها تعمل على تنظيم قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة في المملكة، ودعمه وتنميته ورعايته، وفقا لأفضل الممارسات العالمية، لرفع إنتاجية هذه المنشآت وزيادة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي.

وتعمل "منشآت" في سعيها نحو تحقيق أهدافها على عدة محاور. ومن أمثلة ذلك عملها على إزالة المعوقات الإدارية والتنظيمية والفنية والتسويقية التي تواجه المنشآت، وكذلك دعمها لإيجاد حاضنات للتقنية، وحاضنات للأعمال المختلفة. ويضاف إلى ذلك توجهها نحو تفعيل دور البنوك وصناديق الإقراض وتحفيزها لأداء دور أكبر وفعال في التمويل والاستثمار في المنشآت الصغيرة والمتوسطة. وتواكب "منشآت" التحول الرقمي، حيث تهتم بتنفيذ الإجراءات إلكترونيا في تعاملها مع الجهات العامة والخاصة ذات العلاقة. وبناء على ما تقدم، هناك دور مهم لـ "منشآت" في تفعيل مخرجات برنامج تنمية القدرات البشرية، وتحقيق العطاء المهني والتنموي المأمول من المواطن المنافس عالميا.

وننتقل إلى المنظور الثاني للمواطن المنافس عالميا، وهو منظور المواطن المؤهل الباحث عن وظيفة مناسبة. وهنا يبرز دور مؤسسات القطاع الخاص الكبرى التي تتمتع بأرصدة وافرة، تمكنها من استثمار جزء منها، ربما بشكل مشترك، وشيء من الجرأة، في مشاريع مؤسسات إنتاجية جديدة تناسب معطيات العصر وآفاقه المستقبلية. وقد يكون ذلك بالتعاون مع الشركات العالمية الكبرى العابرة للقارات، أو ربما بشيء من الاستقلال عنها، بدرجات متفاوتة. فمثل هذه المؤسسات قادرة، ليس فقط على الاستفادة من المواطنين المنافسين عالميا، بل على تفعيل إمكاناتهم، وتعزيز خبراتهم من خلال فتح آفاق جديدة للعمل في مجالات متطلبات العصر، والتعاون في ذلك مع جهات خبيرة في هذه المجالات.

نحن في عالم مفتوح، يتمتع بآفاق تطور غير محدودة. ونحن لذلك ندرك أن علينا بناء المواطن المنافس عالميا، وعلينا تفعيل قدراته، والسعي إلى الاستفادة منها على أفضل وجه ممكن. ثم ندرك أهمية ريادة الأعمال ودور المنشآت الصغيرة والمتوسط في التنمية، ونتفهم الحاجة إلى مؤسسات إنتاجية كبرى تواكب معطيات العصر وطموحاته، وتستوعب الحاجة إلى التفاعل مع العالم الخارجي، والتعاون، وكذلك التنافس مع مؤسساته. أمام كل ذلك، علينا أن نتقدم إلى الأمام نحو مشاركة فاعلة في معطيات الحضارة الإنسانية الحديثة والمتجددة.