كلما قرأتُ (يائية) علي بن الجهم الشاعر العباسي البغدادي ومطلعُها:
عيونُ المها بين الرصافةِ والجسر
جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري
تذكرتُ بغدادَ وتاريخها الحضاري الزاهي، وما حفظه من إرث ثقافي مدون بأحرف من نور على صفحاته عن العراق الشقيق الذي كان يمدُّ الأمة بعلمائها وقادتها وفاتحيها.
قد لا يعرف البعضُ أن ثَرى العراق يضم المئات من صحابة سيدنا رسول الله، منهم أربعةٌ من العشرة المبشرين بالجنة.. وقد لا يعرف بعضنا أن ثلاثة من أشهر أئمة المذاهب وُلدوا في العراق، فالإمام أبو حنيفة النعمان وُلِد في الكوفة ومات في بغداد، والشافعي عاش ببغداد، وأحمد بن حنبل وُلِد ومات في بغداد.
ومما يروى عن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه عندما أرسل بعضَ أصحابه إلى الكوفة، قال لهم: «إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جوِّدوا القرآن وأقلِّوا الرواية عن الرسول، امضوا وأنا شريككم».
حتى سيدنا علي بن أبي طالب عندما دخل الكوفة ورأى ابن مسعود، قال: «أصحاب ابن مسعود سُرُج هذه القرية».
هكذا كان العراق والسنة ترفرف على رؤوس أهلها.. وظل العراق في خير واحتفل العام الماضي 2021 بمرور مائة عام على إعلان الملكية في العراق، تلك الحقبة التي وُصفت بأنها كانت حافلة بالإنجازات وبعض الإخفاقات وإيذاناً ببدء العهد الملكي وتأسيس الدولة العراقية الحديثة، فالعراق كان ممثلاً ببريطانيا منذ عام 1917م.. جهود متواصلة بذلها العراق للتخلص من الاستعمار البريطاني حتى كان له ما أراد.
لقد لعب العراق الدورَ الحضاري والثقافي الأهم قُبيل المكيدة التي حيكت له، والمؤامرات والدسائس التي دُبِّرت بليلٍ من المتآمرين عليه وبعض الخونة من الداخل، بهدف تدمير إرثه ومحو حضارته، ولعل ما تم نهبه من آثارِ أطلالِ بابل يجسد حجم تلك المؤامرات، وهو الأمر الذي يتطلب مزيداً من الجهود العربية لانتشاله من هذا المستنقع وإنقاذ إرثه الثقافي، وإخراجه من أنفاق إيران المظلمة التي لم يَجنِ منها العراقيون إلا مزيداً من الفرقة والدماء والدمار.
لقد لعبت بلادنا دوراً محورياً من أجل عودة العراق إلى الحضن العربي حيث شاهدنا تبادل زيارات المسؤولين بين البلدين، ثم اختيار العراق ضيف شرف في معرض الكتاب الدولي بالرياض مؤخراً، بكل ما يجسده ذلك من مكانة للعراق في قلوب السعوديين، كما أنَّ إقامة الأسبوع الثقافي السعودي العراقي تمثّل واجهة ذات دلالات بعيدة ينبغي على الجميع استقراؤها، لإعادة احتضان العراق مهد الحضارات، وحماية إرثه وحضارته ومساعدته على إعادة ما تم استلابه منه، مثل اللوح المسماري (جلجامش) الذي استعاده العراق من أمريكا مؤخراً.
كنت أنهي المقال وأنا أقرأ الخبر الجميل عن إعادة إحياء وتطوير (شارع المتنبي) ليكون أحد المزارات السياحية.. فهتفتُ: (سلاماً يا عراقُ)!
التعليقات