كلٌّ يقرأ النتائج الرقمية التي انتهت إليها عملية اقتراع المغتربين اللبنانيين، يومي الجمعة والأحد الأخيرين، بما يخدم تسويق التوجّهات الشعبية التي يتمنّى أن تنتهي إليها المرحلة الأخيرة من الانتخابات النيابية المقرّرة، يوم الأحد المقبل، فيشيد بها هذا، ويقلّل من شأنها ذاك، ويهتمّ بجزء منها ذيّاك!

ويركّز "السّلبيّون" اهتمامهم على نواح محدّدة، فهم وجدوا في المقارنة بين نسب التصويت في العامين 2018 و2022، "مربط خيلهم"، على اعتبار أنّ هذه النسب كانت أعلى في العام 2018 عمّا هي عليه في العام 2022، وهم اعتبروا أنّ ما انتهت إليه نتائج الاقتراع الحالية، لا يمكن أن تُغطّي على النتائج التي سوف يُسفر عنها إقتراع اللبنانيين المقيمين.

وهؤلاء لا يجانبون الواقع، ولكنّهم "يشدّون" به الى زاوية محدّدة لا تعكس الصورة الكاملة.

صحيح أنّ نسبة التصويت الإجمالية قد تدنّت بضع نقاط، لكنّ الصحيح أكثر أنّ هذه النسبة، في أيّ مقارنة موضوعية، لا قيمة لها، لأنّ عدد المسجّلين على لوائح الشطب الإغترابية للعام 2022 إرتفع حوالي ثلاثة أضعاف عمّا كان عليه في العام 2018، أي من 82 ألف ناخب الى 225 ألف ناخب، فيما ارتفع عدد المقترعين من 46 ألفاً في العام 2018 إلى حوالي 130 ألفاً في العام 2022.

ويعرف الخبراء الإنتخابيون أنّ كثيراً ممّن سارعوا الى تسجيل أنفسهم على قوائم انتخاب المغتربين، فعلوا ذلك لإيصال رسالة سياسية واضحة المعالم الى قوى السلطة، على الرغم من عدم تأكّد كثيرين من قدرتهم على المشاركة في الإقتراع، لأسباب تتّصل بالإجازات المهنية والمدرسية الطويلة، نظراً لوقوع يوم الإنتخاب في الدول العربية والإسلامية، قبيل انتهاء عطلة عيد الفطر، ووقوع يوم الانتخابات في غالبية الدول الغربية، قبيل انتهاء عطلة عيد الفصح.

وبغض النظر عن الأسباب الأخرى التي دفعت بنسب من المسجّلين إلى الإمتناع عن الذهاب الى المراكز الإنتخابية، إلّا أنّه لا يمكن القفز سريعاً فوق الوقت الذي كان يستغرقه وصول المقترع الى قلم الإقتراع، ففي دبي، مثلاً، وتحت حرارة وصلت الى أربعين درجة، إنتظر المقترع مدّة تجاوزت أحياناً الثلاث ساعات، الأمر الذي حصل في باريس، أيضاً، ولا سيّما في فترة ما بعد الظهر.

ولم يمنع هذا الإنتظار الطويل غالبية من توجّهوا الى مراكز الإنتخاب من الإصرار على الوصول الى صناديق الإقتراع، وإن كان قد خفّف من حماسة من كانوا ينتظرون في منازلهم أن تخفّ الزحمة التي لا يمكن أن يتحملوها، لأسباب مختلفة.

وهذا يفيد، وبغض النظر عن الجهود التي بذلتها غالبية السفارات والقنصليات المعنية بتنظيم هذه العملية الانتخابية، بأنّ الأرضية اللوجستية لم تكن مؤهّلة في أكثر من عاصمة ومدينة، لاستقبال نسبة أكبر من تلك التي اقترعت، وتالياً فإنّ تسليط الضوء على نسبة المشاركة، ولو كان لجزئية منها بعد سياسي مرتبط ب"تيّار المستقبل"، لا يعكس الصورة الدقيقة.

ويقود ذلك الى الحجة الثانية التي اعتمدها القارئون السلبيون للأرقام التي أسفرت عنها عملية اقتراع المغتربين، إذ يعتبر هؤلاء أنّ مائة وثلاثين ألف صوت جرى توزيعها على لوائح كثيرة لا يمكن أن تُحدث أيّ فرق إزاء الأعداد التي ستقترع في لبنان لمصلحة لوائح لها ثقلها المناطقي.

هذا لا يجانب الواقع أيضاً، خصوصاً بما يتّصل بالكتلة التصويتية التي تحظى بها لوائح "الثنائي الشيعي" في مناطق نفوذها "المعسكرة"، ولكن ما يتجاوزه هؤلاء أنّ الناخبين اللبنانيين، باستثناء "نخبة متمرّدة"، لا يساورهم أيّ وهم بإمكان إحداث خروق نوعية في بيئة "الثنائي الشيعي"، بل هم يركّزون اهتمامهم على البيئات الوطنية الأخرى، على اعتبار أنّ التغيير المنشود محتمل فيها نظراً لهامش واسع من الديموقراطية تفتقده بيئة "الثنائي الشيعي".
ومن راقب انتخابات المغتربين، يومي الجمعة والأحد الأخيرين، يدرك أنّ هناك موجة عارمة لمصلحة التغيير، وهي موجة، وخلافاً لما يعتقده البعض، ليست مشتّتة في لوائح كثيرة، بل هي تركّز على لوائح غربلها الناخب مسبقاً، بحيث لوحظ أنّ اهتمام المقترعين منصب على قوى معيّنة، سواء أكانت سياسية ترفع لواء المعارضة، أم خارجة من رحم "المجتمع المدني"، بحيث بدا جليّاً أنّ ما شتّتته اللوائح جمّعه المقترعون.

ولا تكمن أهميّة التصويت الإغترابي في عدد المقترعين، فحسب بل يسحب هذا التصويت نفسه، أيضاً على التفاعل القائم بين المقيم والمغترب، بحيث يتأثّر المغترب بالبيئة التي خرج منها، وتتأثّر هذه البيئة أيضاً بما يراه ذووهم المغتربون نظراً لوشائج الود والمساندة المالية القائمة بينهم، الأمر الذي يجعل من كلّ مغترب، في كثير من الأحيان، "مفتاحاً إنتخابياً"، في "ماكينة خفيّة" يعجز عن التحكّم بها أيّ طرف سياسي لا يملك قدرات الترهيب.

وعليه، يمكن اعتبار التوجّهات التي ظهرت في تصويت الإغتراب أقرب استفتاء إلى حقيقة ما يمكن أن تكون عليه توجّهات المقيمين، يوم الأحد المقبل.
وثمّة من يرى أنّ الأجواء التي واكبت الإقتراع في المغتربات، سوف تترك آثارها الإيجابية على نسبة الإقتراع في الداخل، لأنّ المغتربين الذين اهتمّت بهم وسائل الإعلام، مهملة المقاطعين لافتقادهم الى التنظيم "الجاذب"، روّجوا لمسألتين: وجوب المشاركة، وضرورة الثقة ب"معجزة" التغيير.
وليس سرّاً أنّ انتخابات المغتربين أظهرت هوى لبنانياً لثلاثة توجّهات في لبنان:
1- النظرة السلبية الى الدور الذي يلعبه "حزب الله" المسلّح.
2- تحميل "التيّار الوطني الحر" أكثر من أيّ طرف آخر في البلاد، بصفته السلطوية والتحالفية، مسؤولية الكارثة التي لحقت بالبلاد.
3- الإقتناع بوجوب ضخّ دماء جديدة في الحياة السياسية، في ضوء الإرث الذي تركته "ثورة" 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019 لجيل الشباب الذي كان له حضور قوي في أقلام الإقتراع.

وقد انعكس هذا الهوى إيجاباً لمصلحة القوى السياسية التي ترفع شعارات مناوئة لتحالف "حزب الله" و"التيّار الوطني الحر"، كما لقوى التغيير التي ترفع الشعار الشهير "كلّن يعني كلّن".
وإذا كان النائب جبران باسيل، وإدراكاً منه لهذا الإنقلاب في المزاج الشعبي، كثّف هجومه الممنهج على "ثورة" 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019، محمّلاً إيّاها مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلاد، فإنّ خطاب الأمين العام ل"حزب الله" حسن نصرالله، أمس مزوّداً بما يعتبره حججاً ومستعيناً بما يصفه خصومه شعارات "الإستكبار"، دفاعاً عن "سلاح المقاومة"، لا يخرج عن يقينه بمدى تفاعل غالبية اللبنانيين، بالإستناد الى "استفتاء الإقتراع الإغترابي"، مع الشعارات المناوئة لهذا السلاح.

إنّ اقتراع المغتربين اللبنانيين، بما يحمل من توجّهات ليست بعيدة من توجّهات اللبنانيين المقيمين، قد لا يحدث فرقاً جوهرياً آنياً، ولكنّه – وهذا أضعف الإيمان- سوف يترك تأثيرات عميقة من شأن حسن استثمارها أن يُلحق خللاً خطيراً ببنية القوى التي يقوم عليها "الشذوذ اللبناني" الذي بدأ عند ابتعاد قوى 14 آذار عن أحلام شعب "ثورة الأرز"، ومرّ بعقد صفقة سلطوية كانت قد انتجت حكومة الرئيس تمّام سلام على حساب "العنوان السيادي"، قبل أن يستفحل مع التفاهمات "التحاصصية" التي أخضعت الجميع لإرادة "حزب الله" بانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية قبل خمس سنوات وسبعة أشهر.