لو أطلق رئيس "تيّار المستقبل" سعد الحريري، قبل بدء عمليات التصويت في الانتخابات النيابية التي كان قد انسحب منها، الموقف نفسه الذي عاد وسجّله، بعد صدور النتائج، لكان ما وصفه بـ" الانتصار الحقيقي" الذي تمثّل "بدخول دم جديد الى الحياة السياسية"، أقوى وأفعل و"أنقى".

وقد دفع انسحاب الحريري من هذه الدورة الانتخابية بغالبية الموالين له ليس إلى مقاطعة أقلام الاقتراع فحسب، بل إلى التسويق لذلك أيضاً، الأمر الذي وفّر ظروفاً مواتية للبعض من فئة "الدم القديم" حتى يتمكّنوا من تحقيق تقدّم هنا، وللبعض الآخر من فئة "الدم الثقيل" حتى ينجحوا في الحدّ من الخسائر، هناك.

لو أزال الحريري "الضبابية" عن التفسيرات الميدانية لقرار انسحابه، بإطلاق موقف واضح لمصلحة "الدم الجديد"، كما ثابر البعض على نصحه وأصرّ هو على صمته، لكانت "هياكل الخلل السياسي" لم تهتز فقط، كما قال في التعليق نفسه على نتائج الانتخابات النيابية، بل تزلزت أيضاً، ولكان له هو قسط وفير من "الممنونية الوطنية".

ومهما كان الموقف من دور سعد الحريري، إلّا أنّه لا يمكن الاستخفاف بتأثيره في شريحة وازنة من الرأي العام، وهذا ما أدركته "الدماء القديمة والثقيلة" التي ترك أصحابها سيوف مواجهة الحريري جانباً وحملوا "المباخر"، وفي خلفيتهم إعطاء المقاطعين أحقية حتى لا تكون لأصواتهم أيّ تأثيرات في المشهد النيابي الجديد.

على أيّ حال، بما أنّ السيف قد سبق العذَل، فإنّ العيون باتت شاخصة إلى "الدم الجديد" الذي دخل الى الحياة السياسية.

في الواقع، لا يمكن النظر الى النوّاب الجدد الذين حملتهم قوى رفعت لواء التغيير، كما لو أنّهم جسد واحد، ولو حملوا، بأكثريتهم، شعارات موحّدة عنوانها "بناء الدولة".

ولقد أعطى النائب عن المقعد العلوي في طرابلس فراس سلّوم نموذجاً فاقعاً عن التمايز الكبير بين "نوّاب التغيير"، إذ إنّه ما إن تأكّد فوزه، حتى راح ينتشي مع المحتفين به، على أنغام أناشيد تعظيم رئيس النظام السوري بشّار الأسد.

وأربك سلوك سلّوم زملاءه في اللائحة التي حملته، فوصفه بعضهم بأنّه اندسّ خبثاً بينهم، ودعاه بعضهم الآخر الى الاستقالة، فيما عزّز لدى فئة من الرأي العام الاعتقاد بأنّ من يتم وصفهم بـ"نوّاب التغيير" ليسوا سوى "نوّاب التعتير".

ولكن ما هو أكيد أنّ سلوم، في سلوكه الذي تمّت إدانته، قدّم تصوّراً عمّا ستكون عليه منهجية "نوّاب التغيير"، فهؤلاء بيّنوا أنّ بعضهم لن يُغطّي انحرافات بعضهم الآخر، بل سوف يسارعون الى التبرؤ منهم أو عزلهم أو السعي الى إبعادهم عن المجلس النيابي.

وهذا يعني أنّ "الدم الجديد" لن يكون حزباً له هرمية بل سيكون تيّاراً يُشكّله متساوون، وتالياً فإن هذا "الدم" سيكون عصياً على الاستخدام السلطوي كما على الاستيعاب السياسي.

وفي وقت كان سلّوم ينتشي على أناشيد تعظيم بشّار الأسد، كان أربعة تغييريين إلى طاولة برنامج "صار الوقت" في تلفزيون "أم.تي.في" يُعطون ما يكفي من إشارات إلى أنّه يمكن أن تجمعهم مبادئ وطنية ولكن يستحيل أن يجمعهم إطار تنظيمي.

الإطار التنظيمي طرحه النائب الجديد ملحم خلف الذي كان محامو "ثورة" 17 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2019 قد رفعوه الى منصب نقيب المحامين في بيروت، لكنّ النواب "التغييرين" الجدد نجاة عون صليبا ومارك ضو وإبراهيم منيمنة الذين كانوا الى الطاولة نفسها، تحفّظوا على هذا الطرح وصُدموا حين وصل خلف الى حدّ طرح إمكان المشاركة في الحكومات على أساس ما يُمكن أن تقدّمه القوى المسؤولة عن تشكيلها من "إغراءات".

لقد بدا ملحم خلف مثله مثل القوى السياسية التي رفع شعارات معادية لها، فهو لا يريد، قبل التفكير بالسلطة، وضع قطار التغيير على السكّة، بل يستعجل أن يكون جزءاً من "أكلة الجبنة"، على قاعدة أسقطت الكثيرين سابقاً: وجودك في الحكومة أكثر تأثيراً من خطاباتك في المعارضة.

ولكن طريقة التفاعل مع خلف حتى من قبل رفيقه في اللائحة التغييرية نفسها إبراهيم منيمنة، تُظهر أنّ "الدم الجديد" عصيّ على الاستيعاب والاستخدام.

وهذه بشرى سارة الى اللبنانيين، على اعتبار أنّ شعلة المعارضة ستبقى متّقدة بقوّة في المجلس النيابي الجديد، إذ إنّه على خلاف الدورات السابقة، لن تستطيع الحكومات الإئتلافية التي يتم فرضها باسم "الديموقراطية التوافقية"، إلغاء وجود كتل معارضة وازنة، ولو كان لا يجمعها أيّ إطار تنظيمي.

وتقع على عاتق الشخصيات النيابية التي تحمل شعارات التغيير مسؤولية كبرى، إذ إنّ عليها أن تصالح ما يوازي ستين في المئة من اللبنانيين الذين قاطعوا صناديق الاقتراع مع العمل السياسي، وهذا مستحيل إذا لم تتوافر لديها صفتان متلازمتان: النبل والقوّة.

وليس سرّاً أنّه منذ العام 2009 حتى العام 2022 تدهورت نسب المشاركة في الانتخابات النيابية، فهي كانت في العام 2009 51,03 في المئة وتدنّت في العام 2018 إلى 49,68 في المئة لتصل في هذه الدورة الى 41,04 في المئة، أي أنّ نسبة ابتعاد اللبنانيين عن صناديق الاقتراع قد وصلت، بالتدرّج، الى حدود 20 في المئة بين 2009 و2022.

ولا يمكن في هذا السياق، إلقاء المسؤولية على المواطن الذي يُبعد نفسه من العمل السياسي، لأنّه، ومنذ تشكّل وعيه الوطني، يرى أحزاباً وشخصيات سياسية تطرح برامج انتخابية مخادعة، وترفع شعارات سياسية كاذبة، وتقايض بالمناصب كلّ المبادئ، وتهمل قيام الدولة تحت وطأة السلاح.

إنّ "قوى التغيير" ليست معنية بهذه المشهدية السياسية فحسب، بل إنّ ديمومتها من جهة وتوسيع حضورها، من جهة أخرى مرتبطان كليّاً بالنهج الذي سوف تعتمده، أيضاً.

حالياً كما في المستقبل القريب، سوف تتدهور الأوضاع المالية والاقتصادية والاجتماعية أكثر، وسوف تتضاعف مآسي اللبنانيين إلى أخطر المستويات، فأيّ جواب سيقدّمه "نواب التغيير" المدعومون من نوّاب شاركت أحزابهم، بفاعلية في ساحات "ثورة" 17 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2019؟

هل سوف يقدّمون للداخل والخارج تصوّراً إنقاذياً يزاوج السيادة والإصلاح؟ هل سوف يتركون القوى السياسية التقليدية تضع الأجندة ويكتفون هم بالتفاعل معها، أم أنّهم سوف يبادرون؟ هل سوف يُشكّلون وفداً متجانساً يتحرّك في أروقة الدول المعنية بلبنان لدعم شعبه ومنعه من الإنزلاق الى ما تحت حافة الفقر؟

إنّ ما أفقد قوى 14 آذار (مارس) أهميتها اللبنانية والعربية والدولية، بعدما كانت "أسطورة لبنانية" وتسبّب في إنهائها، هو توهّم قواها السياسية أنّها تملك ما يكفي من قدرة على التحكّم بالجماهير التي نزلت الى ساحة الشهداء في 14 آذار (مارس) 2005، وإنّ ما يمكن أن يُنهي "قوى التغيير" ويخنقها في المهد هو اعتقاد نوّابها أنّهم ببعض الكلمات "الرنّانة" الخارجة من قاموس "نخبوي"(على غرار فيتوقراطية، أي نظام التعطيل المتبادل) وببعض المشاريع "الثورية" (مثل الزواج المدني والسلطة القضائية المستقلّة) يمكنهم أن يسحروا الجماهير.

لقد احتفلت القوى الحزبية مع جماهيرها بـ "انتصارها" حيث وجدت مصلحة لها في ذلك، وعلى "قوى التغيير" أن تفعل ذلك أيضاً وليس لديها سوى مقرّ واحد: ساحات 17 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2019.

قبل أن يتم اغتيال سمير قصير، وكان بدأ يلمس عن كثب انحرافات قادة 14 آذار (مارس)، وجّه لهم نصيحة تصلح اليوم لنوّاب "ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر)": عودوا الى الشارع تعودوا الى الوضوح!

إنّ الوضع اللبناني لا يحتمل انتظار مواعيد الاستحقاقات وقدرات التعطيل وسلوكية المساومة ليبدأ مساره الإنقاذي، بل يتطلّب تقريب كلّ المواعيد والبت بكل الاستحقاقات بسرعة وصدق، وهذا لا يمكن إنجازه من دون أن يُبقي النوّاب الذين دخلوا الى مجلس النوّاب شعلة 17 تشرين الأوّل (أكتوبر) مشتعلة، فمن حرق، في ضوء نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة شعار "الثورة" لم يفعل ذلك لـ"يفشّ خلقه" بل لإدراكه أنّ بداية نهاية استتباع لبنان تكون بجعل هذه "الثورة"... بوصلة!